الصفحات

19 أكتوبر 2014

تحليق في سماوات أخرى - شريف بقنه يترجم مختارات للشعر الأمريكي (جريدة الاتحاد)

تاريخ النشر: الخميس 20 أكتوبر 2011
جريدة الاتحاد
محمد خضر

مع ترجمة النص الشعري عن أي لغة أخرى كثيراً ما تستوقفنا الأسئلة حول النص الأصل والنص المترجم، بسبب ما يقال عن أن
الترجمة خيانة للنص، وعن مدى ماحققه المترجم وهو ينقل لنا نصاً شعرياً بالأخص، إذ الشعر ظل من بين فنون الكتابة فناً يحتاج مترجماً مُجيداً للغتين، قريباً من عوالم الشعر، فالشعر الذي يتكئ على لغة مغايرة ومجازات وبنى وتشكلات ثقافية ورمزية جديدة في كل مرة بل ومتجددة بين تجربة أخرى، والشعر هو استخدام اللغة كطاقة مغايرة للقدرة على التعبير والتميز بها عن جميع أنواع الكتابة.

سنقرأ في “مختارات من الشعر الأميركي” الذي اختارها وترجمها الشاعر السعودي شريف بقنة، وصدرت عن دار الغاوون في بيروت، مجموعة من القصائد المترجمة لسبعة عشر شاعراً وشاعرة شكلوا أعمق وأكثر التجارب الأميركية شهرة وإبداعاً، ويجمعهم أيضاً حداثة الشعر وتصوراته الجديدة ولكنهم أيضاً من الشعراء الذين ترجموا كثيراً وفي أزمنة مختلفة، مما جعل شريف بقنة يتحرى نصوصاً بعينها لترجمتها مع النصوص المعروفة والأكثر شهرة لهؤلاء الشعراء، تلك النصوص التي يترجمها بقنة ـ وهو الشاعر ـ أيضاً بلغة حديثة لا يبدو فيها تحميل النص الأصلي بكلمات فائضة أو لسد رمق المعنى أو محاولة خلق معنى لمجرد أنه يتواءم أو يتطابق، بل تتواصل مع النص على مستوى فهمه في دلالاته وتعبيراته، وعلى مستوى واقع شعرية كل شاعر وحساسيته مع اللغة العصرية.

نقرأ لشعراء طالما قرأناهم مترجمين، وعرفنا عنهم الكثير، لكن بقنة يذهب بنا إلى تعريف موجز لكل شاعر ثم يختار عدداً من النصوص أو نصاً واحداً طويلا نسبياً، كما هي الحال مع أولى تلك التجارب الشعرية لوالت ويتمان وقصيدتيه “طفل قال ما هو العشب؟” و”لمحة”، ومع الشاعرة الشهيرة إيميلي ديكنسون ونصوص ربما لم تترجم من قبل، بل ونص لا نشعر معه أنه مترجم كهذا المقطع من نص إيميلي: “الفكرة حاولت جاهدة الإمساك بها مع الفكرة، التي سبقتها، غير أن التسلسل، لم يكن بمتناول يدي مثل كرتين على الأرض”، ثم نقرأ لآخرين مثل روبرت فروست، ووالاس ستيفنز، ووليام كارلوس وليامزو وعزرا باوندو وهيلدا دوليتلو وت. س. اليوت، وكامنغز، وأودن، واليزابيث بيشوب، وروبرت لويل، وآلن غينسبيرغ، وآن ساكستون، وسيليفيا بلاث، ومن زمن المترجم مايا انجيلو، وجون آشبري..

إنهم مجموعة من الشعراء الذين شكلوا تجربة حديثة في الشعر وربما يصعب أن نحدد ما يجمعهم في هذه المجموعة على وجه الدقة، أو بعبارة واحدة، لكن الشعر الحديث ولغة إنسان اليوم وقضاياه وطريقة تعبيره هي ما يتقاطعون فيها عموماً، فبين عشب والت ويتمان وسؤال ذلك الطفل: “طفل قال لي ما هو العشب؟ كان يحمله إليّ بكلتا يديه كيف يمكن أن أجيب الطفل إني لا أعرف عن ذلك أكثر مما هو يعرف”، ومع قصيدة “ثلاث عشرة طريقة للنظر إلى شحرور” مع ستيفنز: “كان لدي ثلاثة عقول مثل شجرة عليها ثلاث شحارير”، وبين ويليامز الذي سمي بالمعلم المجدد، وهو تماماً عند حافة المعركة ينتظر الحب في إحدى قصائده، وعزرا باوند في قصيدة “فتاة وأسطورة ابوللو”، وصولاً الى قصيدة “الرجال الجوف” واليوت المؤثر والمجدد، و”متحف الفرنسي” مع اودن وآلن غينسبيرغ في واحدة من روائعة الشهيرة “تحت ضوء خمسمئة شمس”، إلى بلاث و”قصائد الموت والحزن والحب”، نقرأ سيليفيا بلاث، وهي تقول: “ألجأ إليك مثل زورق فوق بساط الريح”، وهي تقول أيضاً “نافذة بيضاء مربعة تبتلع نجماتها الباهتات”، وهيلدا دوليتل في حديقتها المحروسة والفاكهة التي لاتستطيع السقوط في هواء غليظ كهذا..
الترجمة مع شريف بقنة ليست تلك الصورة المنقولة بحرفة المهني وجاهزيته عبر معمل اللغة والقاموس، وليست روح النص فقط بل هي هذا الفضاء الذي يستوعب حاسة النص ودلالته ثم يفرغ لغته بمفرداتها، وتقنية نصه من حمولات قد تثقل كاهل النص الأصلي فلا نصل إلى القيمة من وراء أي ترجمة، والتي برأيي هي أن نقرأ تجربة شعرية تمس المعنى وتشف عنه كمرآة وأن نقرأ إبداعاً خلاقاً وموازياً.