
كولم كينا، ذا آيريش تايمز¹ - ترجمة د. شريف بقنه
عندما كنت شابًا، تساءلت عن معنى الحياة وغايتها، ولذلك – ظنًا مني أن ذلك قد يساعد – اشتريت نسخة من كتاب برتراند راسل تاريخ الفلسفة الغربية. ولم أكتفِ بذلك؛ بل اقتنيت دفترًا خاصًا أدوّن فيه الكلمات التي لا أفهمها لأعود إليها في القاموس. سرعان ما عدلت عن هذه العادة، لكنني أكملت قراءة كتاب راسل الضخم، وعبره اطّلعت على إرثٍ يمتد لآلاف السنين من التأملات الغربية، ابتداءً بسقراط حتى الفلسفة التحليلية. بهذه الطريقة وجدت أن الفلاسفة – عند النظر إليهم كجماعة – كانوا في حيرة مثل حيرتي.
عندما أنظر إلى الوراء، يُخيل إليّ أن سعيي لتحسين مفرداتي كان أصدق من أملي بأن تقدّم الفلسفة جوابًا جاهزًا لأحد أكثر أسئلة الحياة إثارة. وما زلت غير واثق تمامًا من معنى الأبستمولوجيا أو الهرمنيوطيقا، ولست متأكدًا من سبب ميل المفكرين الفرنسيين، على وجه الخصوص، إلى أفكارٍ فلسفية تبدو متهافتة. ولكنني – وأعلم أن عبارتي قد تُظهِرني كأحد سكان الضفّة اليسرى الباريسية² المهووسين – قد خلصتُ إلى أن أحد أسباب القلق الوجودي لدى الشباب هو أننا، كبشر، مبرمجون فطريًا على امتلاك القدرة اللغوية. ولأن أدمغتنا تتطلّب أن تكون الجملة المصوغة جيدًا ذات معنى، فإننا نُسقِط التوقّع نفسه على الحياة ومعناها عمومًا. ويجب أن نكون قادرين على قول ما تعنيه الجملة. كما أن قدرتنا اللغوية لا تقتصر على الفهم فحسب، بل تشمل أيضًا القدرة على ابتكار الكلمات – وهو أمر يستحق التأمّل فيه.
قد تكون الحياة قاسية حقًا، لكن تظلّ الكلمات عزاءً وسلوى لنا. نقضي وقتًا طويلًا نتأمّل الأعمال الفنية، منبهرين ببراعتها وطابعها الشعري، وبما تمتلكه من قدرةٍ على الإلهام والإثراء والتعبير عن شيءٍ جوهريّ في الوجود. الكلمات تمتلك كل هذه الصفات وأكثر، ويمكن النظر إليها بالدهشة نفسها التي تمنحها لوحة معلّقة على جدار معرض. آثمة، فيّاضة، حائرة. عندما تصادف كلمةً مستخدمة في موضعها الصحيح، فهذا يخبرك بأن الشخص الذي اختارها يشاركك المعرفة بالمفهوم أو التجربة التي تعبّر عنها. أليس ذلك رائعًا؟. وأحيانًا، أثناء المحادثة، نستخدم كلمةً لنعبّر عمّا نقصده، ليأتي الشخص الآخر بكلمةٍ أنسب وأوضح ممّا عجزنا عن التعبير به. غالبًا ما يترك ذلك في النفس شعورًا لطيفًا ومطمئنًا – ولهذا الشعور ما يبرّره.
يجدر بنا أن نتذكّر أن كل هذه الكلمات المدهشة قد ابتكرها أشخاص لا يُحصَون، رحلوا منذ سنوات أو عقود أو قرون. وأن تكون إنسانًا يعني أن تكون جزءًا من تلك الضوضاء المستمرّة. وبعيدًا عن وظائفها العملية، فإن مجرّد نطق الكلمات قد يشعرنا بالمتعة. ويشعر أهل هذه الجزيرة بمتعة خاصة تجاه الكلمات الأيرلندية – sneachta, codladh, sliotar ³ - متخيّلين أن اللغة تحمل في داخلها رابطًا متصلًا مع الأجيال الماضية. يروق لي توقع أن الأمر نفسه يمكن تخيّله مع اللغات الأخرى وعند البشر عمومًا.Désespoir (اليأس بالفرنسية)، وhakuna matata (لا قلقَ بالسواحيلية)، kalinýchta (تصبحون على خير باليونانية). تترابط الكلمات لأنها مستودع مشترك للذاكرة، وهي أشبه بمواقع تراث عالمي لليونسكو، لكنها تتناثر في كل مكان.
في الفترة نفسها التي اقتنيت فيها كتاب راسل تاريخ الفلسفة الغربية، اقتنيت أول أسطوانة موسيقى كلاسيكية، (أبيض وأسود) Blanc et Noir، وهي مختارات عزف بالبيانو لكلود ديبوسي⁴، كانت معروضة للبيع في متجر أسطوانات مستعملة. تضمنت سلسلة من المقطوعات اسمها ست كتابات أثرية Six Épigraphes Antiques، حملت كلها عناوين جميلة. ومن بينها مقطوعة Pour que la Nuit Soit ⁵Propice (لكي تكون الليلة مؤاتية).
لم يكن عليّ أن أتحقّق من ترجمة العنوان الفرنسي فحسب، بل وجدتُ نفسي أبحث أيضًا عن معنى الكلمة الإنجليزية propitious (وتعني: مؤاتية أو دالّةً على احتمال نجاح كبير). وفي كلّ السنوات التي تلت ذلك، لا أذكر أنني استخدمتُ تلك الكلمة ولو مرة واحدة في عملي كصحفي… لكنني فعلت ذلك الآن.
________________________
¹ After thousands of years of philosophy, the meaning of life can be summed up in a word, Colm Keena, The Irish Times – Nov 03 2025
² الضفة اليسرى من باريس وهي منطقة ارتبطت تاريخيًا بالوجود اليساري والفلاسفة والوجوديين والبوهيميين.
³ كلمات من اللغة الأيرلندية (الغيلية) sneachta، codladh، sliotar: تشير الأولى إلى الثلج، والثانية إلى النوم، والثالثة إلى الكرة المستخدمة في لعبة الهيرلينغ التقليدية. ويستحضرها النص لما تحمله من وقعٍ صوتي وارتباطٍ تراثي لدى الأيرلنديين.
⁴ Claude Debussy
⁵ الترجمة الإنجليزية That the Night May Be Propitious