17 سبتمبر 2021

شذرات من كتاب «مذكرات العمى» جون هال

"هناك العديد من السير الذاتية التي كتبها المكفوفون - روايات وسرديات مؤثّرة وملهمة في آنٍ واحدٍ - تُبْرز الآثار العاطفية والأخلاقية للعمى في الحياة، ونوعيّة الإرادة والفكاهة ورباطة الجأش اللازمة لتجاوز المحنة. هذا الكتاب ليس حكاية: ليس له بداية أو وسط أو نهاية واضحة؛ يفتقر إلى الادعاء الأدبي. إنه يتجنّب الشكل السردي نفسه وهو، في رأيي، تحفةٌ فنّية.

 ‏لم يُكتب: "أمسك بطرف الخيط*" في جلسة كحكايةٍ أو سردية، ولكن كُتِب وسُجّل على فترات - في البداية يوميًا، ثم بشكل دوري - بعد أن فقد البروفيسور هال بصرَه تمامًا، في الأربعينيات من عمره. ما يقدمه هو ملاحظات مؤثّرة في طبيعتها ووضوحها، ملاحظات حول كل جانب من جوانب حياته وعالمه الداخلي الذي تحول وقتها وبشكل مُرعب. يصِفُ كيف يعبر الشارع. كيف يمكن للمرء أن يضيع بشكل مروّع وكلّي عندما يكون أعمى؛ كيف يجد المرء نفسه مُتجاهلاً أو مستصغرًا؛ كيف أن ذكريات وصور وجوه الناس، وجه المرء أيضًا، لم تعد مُحدّثة لافتقاد الرؤية الفعلية، تصبح متحجّرةً أولاً، ثم باهتةً ثم تختفي تمامًا؛ كيف تتغير العلاقات مع الأسرة؛ كيف تصبح مفاهيم: "المكان"، "الفضاء"، "هنا"، "هناك"، "الحضور"، "المظهر"، بكل درجاتها، مع التقدّم في المرض والعمى، خالية تمامًا من المعنى. لم يكن هناك أبدًا، على حد علمي، كتابٌ فيه قراءة دقيقة ورائعة (ومخيفة) لكيفية التلاشي التدريجي للعين الخارجية، ليس ذلك فحسب، بل التلاشي "للعين الداخلية" أيضًا؛ الخسارة المطّردة للذاكرة البصرية، والصوَر البصرية، والتواؤم البصري، والمفاهيم البصرية (في وقتٍ ما، كان لا يتذكر ما إذا كان الرقم 3 يُشير إلى الخلف أم إلى الأمام)؛ في رحلته المستمّرة والتي استغرقت خمس سنوات وأخذته إلى الحالة التي أسماها: "العمى العميق".

 ‏الملاحظات كانت دقيقة، وبنفس القدر عميقة: أمعَنَ النّظر في كل شيء، واستكشفه إلى أقصى حدوده، كل تجربةٍ في الكتاب سلكت طريقًا، وأثمرت حصادًا كاملًا من المعاني. نظرات هال الثاقبة، وجمال لغته، تجعل هذا الكتاب شعرًا؛ عمق تأمّلاته يحولها إلى فلسفة أو فينومينولوجيا. لو كان فتجنشتاين  أعمى، لكتَبَ مثل هذا الكتاب، معبرًا عن أعماق فينومينولوجيا الإدراك المتغيرة على الدوام. وبالفعل، فإن استخدامه للاسكتشات القصيرة والملاحظات المُبهرة عنها، يجعل: "أمسِكُ بطرَف الخيط" مشابهًا وبشكل غريب للتحقيقات الفلسفية." أوليفر ساكس  (تمهيد الكتاب)

** ** ** ** **

8 يناير 1983

" إذا قبَلت هذا الشيء، وإذا أذْعنت، فسأموت. سيكون الأمر كما لو أن قدرتي على المقاومة، وإرادتي في المقاومة محطّمة. من ناحيةٍ أخرى، يبدو أن رفض الإذعان، رفض القبول، أمر عديم الجدوى. ما أحاول أن أرفض قبوله هو محْضُ الحقيقة.

هذه إذن هي المُعضلة. أنا في حضور واقعٍ لا يمكن تقبّله."

** ** ** ** **

27 أبريل 1984

"بعيدًا عن امتداد البحيرة، سمعتُ حفيفًا وكشيشًا مختلفًا لقوارب عابرة. كان هناك من يلعب كرةَ القدم. سمعت صراخًا، وأقداماً راكضةً، ووقعَ اصطدام القدم بجلدة الكرة. بدا أن هناك عدّة مجموعاتٍ تلعبُ ألعاباً مختلفة، حولي أطفال يلعبون، وفي ذاك الاتجاه مجموعة أخرى من الأطفال. في خلفية كل هذا المشهد، كانت الريحُ تُهَسهس، والأشجارُ من ورائي بأوراقها تحفحف، والشجيرات على طول الممرات تخشخش، وبقايا الجرائد على طول الطريق تتطاير. اتكّأت إلى الوراء وتجرّعتُ كل شيءٍ. يا لها من بانوراما متنوّعة وثريّة بالحركة والموسيقى والمعلومات المُذهلة. كان ذلك ممتعًا ورائع الجمال."

** ** ** ** **

8 مايو 1984

"سألتي بنبرةٍ متردّدة، ولكن فضولية: "جون، ماذا عنك؟ لماذا لم تقبل بعرضِه؟ ما الضرر الذي يمكن أن يحصُل؟ هل تعتقد أنّك وصلت إلى النقطةِ التي لا تريد فيها استعادة نظرك؟". 

فوجئت بهذا، وقلت: "كيف يمكِنُك أن تقولي ذلك؟ بالطبع أريد لبصري أن يعود! لن أقبل أبدًا فقدان البصر!".

 سألت: "لكن يا جون، يبدو أنك تأقلمت بشكل جيد مع ذلك. تبدو دائمًا رزينًا جدًا، وسعيد جدًا، ويبدو أنك تمارس حياتك بشكل جيد".

قلت بحرارة: "أنتِ لا تعرفين نصف الحقيقة، لن أقبل أبدًا بالخسائر الإنسانية التي تترتّب على العمى، ولن أقبل أبدًا بالمساعدة العبثية من ذلك النوع، من تلك الجهات خصوصًا. ألا ترين أنني أجد الأمرَ أكثر إهانة، وأكثر إذلالًا، وأنه سيكون محض خيانة لأي شجاعة أو كرامة تبقّت لدي؟ ثمّة مواقف في الحياة يتعيّن عليك فيها خوْضَ حرب ضد اليأس، حرب طويلة الأمد، ولكنها كريمة، عليك ألا تسمح لعاطفتك أن تستعبدك لأولئك الذين يروّجون آمالًا زائفة".

** ** ** ** **

19 يونيو 1984

" إذا كان الأعمى يعيش في الزمان، فإن الأصمّ يعيش في المكان. يقيس الأصمُّ الزمن برؤية الحركة. ومع ذلك، إذا نظر الأصمُّ إلى عالمٍ لا حركة فيه، مثل منظر النجوم، أو شارع مهجور، أو جبل لا يتزحزح، فثمّة شعور بالأبدية، ثمّة تواؤم ساكن. بفقدان هذا النوع من الشعور بالمكان، يصبح لدى المكفوفين شعورٌ أقل بالثبات والدوام. عالم المكفوفين سريع الزّوال؛ لأن الأصوات تأتي وتذهب.

ضع في اعتبارك أهمية العلاقة بين الجسد والزمن بالنسبة للمكفوفين. الشخص الأصمّ الذي يسير إلى المنزل لا يواجه أي مشاكلٍ في توقيت النقطة التي يغادر فيها الممشى العام ويدخل منزله، فهو يضَعُ جسَدُه في عدَدٍ من صور بيئته والتي تكون متَّسِقة إلى حدٍّ ما من يومٍ لآخر. عندما تظهر أمامه صورةٌ معيّنة مثل شكل منزله، أو لون بابِه الأمامي، سيعرف الطريق الذي عليه أن يسلُكَه. أمّا الأعمى، فهذا الشعور بالوجود في مكانٍ ما أقلُّ وضوحًا."

** ** ** ** **

19 سبتمبر 1984

" وجدت الإحساس بالريح في مترو الأنفاق مثيرًا إلى حدٍّ ما. عندما تمرّ القطارات، تندفع تياراتٌ الهواء على امتداد المنصّات والأنفاق وحتى السّلالم. مُفعمَةً برائحة الصّحف والمعادن والزيوت، إلى جانب آثار لرائحة السّيجار والطعام وملابس الناس.

الأكثر إثارةً للاهتمام كان القطار نفسه. بين المحطّات، لا يوجد شيءٌ يمكن رؤيته عبر النوافذ، لذلك لم أشعر بالإحباط من ضياع المنظر. وجدت أنّه يمكنني بسهولة التمييز بين الاحتكاك المعدنيّ للعجلات على القُضبان، والدويّ الميكانيكي للمحرّكات أثناء تجميع القطار للطاقة، وكشيش فتح وإغلاق الأبواب الأوتوماتيكية، وضوضاء الهواء المتسارع في النفق نفسه. صوت الريح عندما نقترب من المنصة يختلف تمامًا عن صوتها عندما نغادرها. بالإضافة إلى كل هذا، هناك ضوضاء بشرية، محادثات في المقصورة، صوتُ خطوات الركّاب وحركتهم، ضوضاء الخلفيّة الكاملة للمحطة والتي تفيض إلى المقصورة في كل مرةٍ تُفتحُ الأبواب فيها. يتكرّر المشهد البانورامي بأكمله كل دقيقتين أو ثلاث دقائق، وهو الوقت المستغرق للانتقال من محطّةٍ إلى أخرى. ثمّة تسارعٌ يُسرع ويُسْرع حتى نصل إلى السرعة القصوى. تُسحَبُ الفرامل بعد ذلك ويبدأ التباطؤ. نصِلُ إلى محطةٍ جديدة، نتوقّف بفرملةٍ أخيرة، وتبدأ العملية برمّتها مرة أخرى. علاوةً على ذلك، فإن الأصوات تغمرني تمامًا. "


** ** ** ** **

21 سبتمبر 1984

" هل صحيح أن المكفوفين يعيشون في أجسادهم وليس في العالم؟ أنا على إدراك بجسدي تمامًا كما هو إدراكي للمطر. يتكون جسدي بالمثل من أنماطٍ مُتّسقة ومختلفة، ممتدة في المكان من هناك في الأسفل إلى هنا في الأعلى. تكشف هذه الأبعاد والتفاصيل عن نفسها أكثر فأكثر كلّما ركّزت انتباهي عليها. لا شيء يتوافق بصريًا مع هذا الإدراك. عوضًا عن الحصول على صورةٍ لجسدي، كما نسميه: "الشكل البشري"، أستوعب الأمر على أن هذه الترتيبات من الحساسيات، مساحةٌ واعيةٌ يمكن مقارنتها بأنماط المطر المتساقط. تقبض عليّ أنماطُ المطر في عددٍ لا يحصى من نقاط الوعي، وكذلك يتمظهر جسدي لي بنفس الطريقة. هناك منطقة مركزية، بالكاد أعيها، ويبدو أنها تأتي وتذهب. في أطرافي، تتلاشى الأحاسيس في اللاوعي. يختلط جسدي والمطر، ويصبحان كونًا صوتيًا لَمْسيًّا واحدًا ثلاثي الأبعاد، يكمن وعيي في داخله وفي جميع أنحائه. يحصلُ هذا في تناقضٍ حادٍ مع الخط أحاديّ المسار للكلام المتتالي والذي يتكون من أفكاري. هذا الخط الفكريّ المُعبّر عنه في الكلام لا يمتد في المكان على الإطلاق، لكنه يأتي نحوي مثل عرباتٍ في قطار بضائع، تخرج من الظلام، واحدة تلو الأخرى، وتمرُّ تحت نور المعرفة، لتنحسر في الذاكرة. يقع هذا الخطُّ من الأفكار المتتالية داخل واقعٍ ثلاثيّ الأبعاد لأنماطِ الوعيّ التي يتكون منها المطر وجسدي، مثل محور الخُذروف."

** ** ** ** **

13 أكتوبر 1984

" أعرف كيف أبدو من ذكريات الصور الفوتوغرافية ورؤية نفسي في المرآة. من الغريب أن العديد من الصوَر التي أتذكّرها بوضوح ليست حديثة، لكنّها التقطت منذ سنوات، وبقيت عالقةً في ذهني؛ لذلك أعلم أن ذكرياتي عن نفسي أصبحت قديمةً بالفعل، والشيء الغريب أنّني لا أستطيع تحديثها. هذا يُشعرني بالتنافر المعرفي عندما أفكّر في نفسي. من ناحيةٍ، أعلم أنني فلانٌ من النّاس بملامح معيّنة. من ناحيةٍ أخرى، أعرف نفسي كشخصٍ ربّما ما عاد يبدو كذلك، ولا أستطيع الوقوف ومشاهدة أثر الوقت والزمن على ملامح وجهي. كيف يمكنني أن أتقدّم في العمر مع نفسي؟

لقد انفصلت عن ظلّي كما في الرسوم المتحركة. صورةٌ مرتعشةٌ لنفسي تُرِكت ورائي، في حين أن شخصي الحقيقي تشظّى بفعل انفجارٍ مفاجئ، ما فلقَني إلى صورتين. كل واحدةٍ لديها تعابير وقوام مختلف، وتقوم بأشياء مختلفة. أنا على علاقة مزدوجة مع نفسي."

** ** ** ** **

‏11 مارس 1985

" في السعي إلى الفهم، سعيٌ إلى المعنى. هذا التصريح جزءٌ من إيماني. أنا ملتزمٌ بالفعل بمفهوم أن الحياة الموحّدة أعلى قيمة من الحياة المجزّأة، والمعنى الكامل أفضل من المعنى الجزئي. بطبيعة الحال، فإن السّعي وراء المدلول النهائي والتكامل الكلّي لن ينتهي أبدًا. لنْ يكونَ هناكَ منتجٌ نهائيٌ أبدا. ومع ذلك، فإن البحث والسعي لا يزال يستحق العناء. سأكون أكثر عقلانية إذا تمكنت من قبول وتضمين وملائمة المزيد والمزيد من تجربتي.

عندما أتحدّث عن السعي للفهم، أفكر في الإيمان بحثًا عن الفهم. لهذا السبب، بالنسبة لي، لا يمكن أن يكون هناك استسلامٌ رواقي أمام مصيرٍ غيبي، مهما بدا الأمر شجاعًا، دون أعضّ على أسناني لا يمكنني القبول بمصيرٍ لا معنى له."

** ** ** ** **

8 مارس 1985

"عندما كنت مُبصرًا، غالبًا ما كنت أتناول مشروبي وآكل الساندويتش على البار في مطعم الموظفين. حتى لو ذهبت بمفردي، فنادراً ما أبقى وحدي لفترةٍ طويلة. كنت سألتقي بشخصٍ أعرفه، أو اعتقدت أنّني أعرفه، أو تظاهرت بأني أعرفه. ستحصل هناك إيماءةٌ ظريفة، وابتسامةٌ عابرة، وسأجَد نفسي أتحدّث مع شخصٍ ما.

كل هذا تغيّر. عليّ أن أنتظر حتى يقترب مني شخصٌ ما، أو عليّ أن أتعرّف على صوتِ شخصٍ أعرفه. في البار المزدحم، هذا ليس بالأمر السهل. علاوةً على ذلك، فإن الأشخاص الذين يمكُن تمييز أصواتهم بما يكفي لأتعرّف عليهم هم الأشخاص الذين أعرفهم جيّدًا بالفعل، وليسوا مجرّد معارف عابرين كنت التقيت بهم في الأيام السّابقة. لم يعد بإمكاني تقديم نفسي للغرباء، لقد سلب العمى مني كل الخطوات التمهيديّة للتعارف، إعرابات الشّكر الصغيرة، أسئلة المجاملة والتحايا العرضية."

** ** ** ** **

21 مارس 1985

".. هذا يعني أنه لا يمكنني ببساطة قبول العمى، ويجب أن لا أرفضه أيضًا. عليّ أن أنسجم معه، عليّ أن أربط العمى بالبصَر، والوعي باللاوعي، والله بالشيطان، والحياة البشرية بالكون، وقوى الخلق بقوى الدمار. الرواقي يتسامح بشجاعة مع هذه التناقضات، لكن المسيحي يتفهّم ويسعى إلى تجاوز هذه الاختلافات وتوحيدها."

** ** ** ** **

11 أغسطس 1985

"لم تعُد أوجاع العمى تلاحقني في معظم الوقت هذه الفترة. ثمّة تغيير غريب في حالةِ أو نوع النشاط في عقلي. يبدو أنه قد انقلب على نفسه، وأوجد محفزات داخلية ملائمة. نظرًا لحرمانه من محفزات كثيرة في العالم الخارجي، فقد كان عليه أن يكتفي ويعيد ترتيب، وفرز وظائفه وأولوياته. أشعر الآن بأنني أكثر صفاءً وحماسةً ومغامرةً فكريةً أكثر من أي وقتٍ مضى في حياتي. أجد نفسي أكثر تواصلًا، وأتذكر أكثر، أستطيع تكوين روابط أكثر في ذهني بين الأشياء المختلفة التي قرأتها وتعلّمتها على مرّ السنين. أحيانًا أعود إلى المنزل في المساء وأشعر أن ذهني يكاد ينفجر بأفكار وآفاقٍ جديدة.

ما زلت أجد حاجة ماسّة لهذا النوع من القوت اليومي. مرور يومٍ واحد بدون دراسة أو تعلم لشيءٍ جديد، يمكن أن يعجّل بإحساسٍ جديدٍ من الإلحاح والمعاناة. ما زلت أشعر وكأنني شخص على جهاز غسيل الكلى، يسعى وبشكل متزايد على البقاء على قيد الحياة."

** ** ** ** **

18 نوفمبر 1985

".. لا شك أن الأشخاص الذين يقدرونني يأسفون أنهم لا يستطيعون إشراكي في الأشياء التي يحبونها. ومع ذلك، يجب مواجهة الحقائق؛ نظرًا لأنني لست قابلاً أو قادرًا على مشاركتهم، يبدو أنه من غير المجدي لفت الانتباه إليّ بهذه الطريقة، بالرثاء والحديث عن الحزن. كل هذا له تأثير يشعرني بأنني غريب. مثلما أنا مهتم بما يُقال، يأتي تذكير يطعنني في الجنب، مرارًا وتكرارًا: أنت خارج هذا؛ أنت لست واحدًا منا. هل من الممكن أن يكون هذا مقصودًا؟ هل من الممكن أن يكون هذا دفاعًا لشخصٍ مبصر، واختبارًا لقوته البصريّة مقابل قوتي؟ ذلك درسٌ عن كيفية النجاح في تثبيط عزيمة الأعمى؟"

** ** ** ** **

22 ديسمبر1985 

"هل كان للعمى مقصد؟ هل كان من المفترض أن أصاب بالعمى؟ كثيرا ما يسألني الناس أسئلة مثل هذه.

 ‏حصلَ العمى الذي أعانيه كنتيجة لآلاف الحوادث العرضية الصغيرة. لم يكُن "مسارًا"، ولم أكن أسير نحو العمى بطريقة مُخطّطة. إذا نظرنا إلى الوراء، أستطيع أن أرى سلسلة الأحداث، ويبدو أنها تشبه إلى حدٍّ ما المسار، ولكن أي شيءٍ لا يتبع مسارًا يمكن رسم مسارات له بمجرد عبوره. عندما تنظر إلى الأمام، لا يوجد طريق وإنما عدد لا حصر له من الاحتمالات.

تعني كلمة: "العناية الإلهية" "التطلع إلى الأمام"، وتشير تقليديًا إلى فكرة أن الله يقودك على طول الطريق. أعتقد أننا يجب أن ننظر إلى هذا المبدأ كدليل يُستنبطُ من الماضي، يجبُ أن ننظر إلى الوراء؛ لأنه فقط عندما ننظر إلى الوراء، يصبح للحدَث العرَضي معنى. يتبلور المعنى بعد الحدث. هذا هو السبب في أن السؤال: "لماذا حدث هذا؟" هو بالأحرى سؤال مضلّل. لقد حدث ذلك لأنني ولدت في القرن العشرين، وليس في القرن التاسع عشر. إذا كنت قد ولدت قبل مئة عام، فلا شك أنني كنت سأفقد بصري في سن مبكّرة؛ ولو كنت قد ولدت بعد قرن من الآن، فلا شك من أنّني سأتمكّن من علاج بصري. بعبارةٍ أخرى، يمكنني أن أضَع ألف احتمال آخر يمكن أن يبرّر ويوضّح كيف وقع ذلك الحدث في حياة هذا الفرد. ولكن إذا كان المرء يسأل عن: "لماذا؟"؛ عن السبب العام، كما لو أن العمى نفسه كان قدري وأنا لا أؤمن بذلك. 

كل حدَثٍ من الأحداث سبق الحدث الكبير هو حدث عرضي، ولم يكن للتسلسل بأكمله ليحدث لولا اجتماع كل هذه الأحداث العرضية، بشكلٍ أو بآخر.

الإيمانُ عمل إبداعي. من خلال الإيمان نحوّل الأحداث العرضية في حياتنا إلى إشاراتٍ لمصيرنا. السعادةُ حدَثٌ عرضي، ولكن المعنى يتضّح عندما نعيدُ تصوّر الصدفة وتولدُ الصور الجديدة.

ومع ذلك، هذا ليس إنجازًا، أو على الأقل لم يحصل كنتيجةٍ لمجهود. للصور طاقة خاصّة، وتصبح الحياة ذات مغزى حين تجتمع هذه الصور، وتصنع المحتوى العرَضي للحياة. السعادة ليست أهم شيءٍ في الحياة، بل المعنى. السعادة هي نتيجةٌ لسلسةٍ من الأحداث التي تبعث على غبطتنا. العمى لا يسعدني. لم أختره، ولم ينزله أحدٌ على عاتقي. ومع ذلك كحدثٍ عرضي يمكن أن يصبح ذا مغزى."

_________________
الاقتباسات من كتاب «مذكرات العمى»  جون هال ، ترجمة د. شريف بقنه، دار أدب للنشر والتوزيع - الرياض 2021
* «أمسِك بطرف الخيط: تجربة العمى» عنوان الكتاب عند صدوره لأول مرّة، سيتكرّر ذكر العنوان عدة مرّات في الكتاب، وفي سياقات مختلفة؛ لذلك أحببت التنويه بأن العنوان بالإنجليزية touching the rock من التعابير Idioms أو الاصطلاحات الاستعارية التي لا تُترجم ترجمة حرفية، وعند ترجمتها حرفيًا لا تنقل المعنى المُراد للقارئ العربي، المعنى المقصود هو فعلتها، أو استطعت فِعل الحدّ الأدنى من المهمّة رغم صعوبتها؛ أجِدُ أن «أمسِكُ بطرَف الخيط» تعبير استعاري قريب ومكافئ في العربية. المترجم

الأكثر مشاهدة