17 سبتمبر 2021

الترجمة.. جسر الحضارة وحوار الشعوب

الاثنين 23 ذو الحجة 1442هـ 2 أغسطس 2021م - جريدة الرياض

تحقيق - بكر هذال

تشكل الترجمة جزءاً مهماً من التقارب بين حضارات الشعوب، وتحظى باهتمام خاص ضمن إطار تحقيق التقارب بين الثقافات الأوسع على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية كمساحة مشتركة لتبادل الخبرات والثقافات.

وفي السنوات الأخيرة ساهمت الترجمة من خلال الكُتب الثقافية والأدبية والعلمية بالإضافة إلى الروايات والقصص الأجنبية التعريف بثقافات الشعوب، وأثرت كبار الشركات والمواقع الإلكترونية الساحة الثقافية بالتراجم لكبار المؤلفين والمؤرخين مما سهّل على القارئ العربي الاطلاع على الثقافات المختلفة.

حول هذا الموضوع «الرياض» التقت بعدد من المختصين في مجال الترجمة الذين أكدوا على ضرورة الترجمة التي تُعد من الروافد الثقافية المُهمة، ويجب الاهتمام بها لنقل صورة تليق بنا وبحضارتنا، وإبراز صورة بلادنا المشرّفة للعالم.

** ** ** **

ركب الحضارة

في البداية تحدث محمد بن عودة المحيميد –رئيس وحدة الترجمة بمركز البحوث والتواصل المعرفي، ومُهتم بتأليف الأعمال التاريخية والتوثيقية والاجتماعية- قائلاً: الترجمة هي الجسر الذي تعبر من فوقه العلوم والفنون، أو لنقل الثقافات والحضارات من ضفة إلى أخرى أو من أمة إلى أخرى، ولن تجد قصوراً في أمة في مجال الترجمة ونقل العلوم إلا كان ذلك مؤشراً على تخلفها عن ركب الحضارة، ولو قَصَرْنا حديثنا على الجانب الثقافي فقط لوجدنا أن معظم العرب الذين اطلعوا على الآداب العالمية وما أنتجته عبقريات الدنيا في الشعر والنثر والنقد، قرؤوا تلك الأعمال الخالدة مترجمة باللغة العربية، قليل لدينا من يتحدث الروسية أو الإسبانية مثلًا، ومع ذلك نجد أن كثيرًا من المثقفين العرب قد قرؤوا أعمال دوستويفسكي وتولستوي، أو غابرييل ماركيث "مئة عام من العزلة"، وكثير من الأعمال الأدبية الخالدة من الشرق والغرب، قد يقول قائل إن بعض هذه الأعمال ترجمت عن اللغة الإنجليزية وهذا ما يثبت صحة كلامنا، إذ إن أكثر البلدان تطورًا هي تلك التي تتحدث الإنجليزية، وهي أنشط الشعوب في عملية الترجمة.

ولا شك أن الترجمة تعين على تفهم الآخر، حتى لو اختلفت وجهات النظر والمواقف، وتساعد على طرد الوحشة بين الناس فـ"الناس وحوش حتى يتعارفوا" كما يُقال.

ولكن الأمر المقلق هو أن من يقرأ باللغة العربية، سواء أعمال مترجمة أو تأليف، قليل جدًا، وهم تلك النخب أو المثقفين، ولذلك تجد أن الترجمة لا ترقى إلى الطموح، ولذلك أسباب كثيرة أهمها ندرة القارئ، وسوء عمليات التوزيع، والتلاعب في حفظ الحقوق، واعتماد الترجمة على الجهود الفردية المتفرقة أو الأجهزة الناشئة حديثًا، التي لم تؤت ثمارها المتوقعة، وهذا ما يجعل هناك ندرة في وجود المترجم المتمرس الممتهن للترجمة.

قرأت قبل سنوات، وأرجو أن الأمر تغير، تقريرًا صادرًا عن الأمم المتحدة يتحدث عن إحصاءات حول الترجمة في العالم، وكان هناك مفارقة عجيبة هي أن العرب منذ العصر العباسي ترجموا أحد عشر ألف كتاب فقط حتى الوقت الحاضر، في حين أن إسبانيا، وهي أقل دول أوربا، تترجم في كل عام أحد عشر ألف كتاب.

وهناك أمر أهم وهو النقل من العربية إلى اللغات الأخرى، فنحن أحوج ما نكون لنقل صورة تليق بنا عن ديننا وحضارتنا ومواقفنا، وإبراز صورتنا التي طالما تعرضت للتشويه والتدنيس، والدفاع عنها، فديننا دين المحبة والسلام والدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، وبلادنا تنشد السلام والأمن للعالم أجمع.

** ** ** **

أهمية وجود الترجمة

وقال خالد بن أحمد اليوسف -قاص وروائي-: عرف العرب والمسلمون الترجمة منذ بدايات فجر الحضارة الإسلامية، وتتحدث كتب التاريخ والسير والتراجم عن مسيرة الترجمة على أيدي عشرات العلماء، الذين كلفوا من الخلفاء المتبصرين بأهمية وجود الترجمة في حياة الأمة الإسلامية، ولهذا سبق المسلمون غيرهم من الأمم في هذا المجال، ثم بعد عقود استفادت الأمم الأخرى مما أحدثه وجدده علماء العرب والمسلمين في العلوم، ولهذا نقلت وترجمت المعارف والعلوم من اللغة العربية إلى معظم اللغات القريبة منها، ونحن في العصر الحديث نرى أهمية الاستمرار في هذا المجال من معظم دول العالم، بعد أن انتشرت المراكز والمعاهد والهيئات الخاصة بالترجمة، وفي بلادنا العصرية الحضارية نسابق العالم في هذا المجال بعد مرور عقود على إنشاء أقسام وكليات الترجمة في معظم جامعاتنا السعودية، ونحصد النتائج الآن في عشرات الكتب التي يتم ترجمتها من لغات كثيرة إلى اللغة العربية، والعكس كذلك في ترجمة كتبنا العربية إلى لغات العالم،

ومن خلال متابعتي وحرصي على الدخول في هذا المجال رأيت أهمية الترجمة والتسارع في نشاطها في معظم نشاطنا وفعلنا العلمي والثقافي، خصوصاً بعد وجود جائزة عالمية في بلادنا في هذا المجال، ووجود عشرات الشباب الذين يمارسون الترجمة بشغف ومهارة واقتدار في جامعاتنا وفي مراكز حيوية أخرى

والتقارير المبنية على دراسة الواقع تثبت ذلك، ومن خلال متابعتي كذلك للعمل الدؤوب في مركز البحوث والتواصل المعرفي بالرياض أرى أننا نسير بالطريق الصحيح.

الشمري: الترجمة إثراء وحيوية للمجتمعات

** ** ** **

لغة عالمية

وأوضح شريف بقنة -مترجم، ومُهتم بالترجمة الأدبية- بقوله: أنظرُ إلى اللغة باعتبارها أكثر من مجرد أداة تسمح لنا بالتواصل، بل كائن حيّ يرتبط مصير تطوّرها بمصير تطور الإنسان الناطق بها، وبالتالي بمصير المجتمع الذي يعايشه ذلك الإنسان، تختزلُ اللغة في داخلها ثقافات وقيماً مجتمعية ومعتقداتٍ روحانية، وباعتبار وجود آلاف الثقافات في أنحاء المعمورة، يتجسّد في كل ثقافة منها تفاصيل الحياة اليومية وطقوس المفاهيم الروحية والكثير من الملامح الخاصة الأخرى، لا يمكن بالتأكيد تخيّل عالمنا اليوم متنوّعاً إذا تم التواصل بين أفراده بلغة عالمية واحدة، ذلك يعني بالضرورة أن هذا التنوع في الثقافات مرتبطُ بشكلٍ أو بآخر بتنوّع اللغات، صحيحٌ أيضاً أن ثمّة اختلافات جوهرية في اللغات بين مجتمع وآخر وأن بعض اللغات غير قادرة على التعبير عن بعض المشاعر أو العواطف أو الأوصاف المحدّدة في لغة أخرى، كما أن المجازات والأمثال والإشارات المعقّدة تختلف وتُستبدل في ثقافة الآخر في أغلب الأحيان، كل ذلك يشير إلى الدور الكبير التي تتحمّله الترجمة، باعتباري مترجم أدبي ومهتم بالترجمة الأدبية، سأخصص بقية كلامي في الحديث عن الترجمة الأدبية.

يعرف كل محبٍّ للقراءة أن كلاسيكيّات الأدب العالمي العظيمة تظلّ في العقل الجمعي للبشرية، ومع ذلك، لكي تحدث هذه الظاهرة، فإن الأمر لا يقتصر على خيال وأسلوب وكتابة المؤلف الأصلي، ولكن على الترجمة الأدبية أيضاً والتي تجعل من الممكن نجاح النص في جميع أنحاء العالم، بالنسبة لعناوين مثل آنا كارينينا وأعمال دوستويفسكي وحتى سلسلة هاري بوتر باعتبارها أكثر العناوين قراءةً في العالم اليوم، أصبحت الحاجة إلى المترجم المحترف أمرًا لا غنى عنه، ولا يمكن لأعمالٍ مثل هذه أن تصل إلى مكانها المرموق من حيث الأهمية والمقروئية مالم تقع في يد ناشرٍ يهتم في ترويج الأعمال التي تحمل قيمة أدبية فريدة، على عكس أنواع الترجمة الأخرى، فإن الترجمة الأدبية لا تتعلق فقط بجعل روايةٍ، أو قصيدةٍ، أو مسرحيةٍ، أو قصةٍ مفهومة بلغات أخرى، بل إن دور المترجم المحترف يتمثّل في إعطاء الحياة لعملٍ أدبيٍّ "جديد" يحافظ على طابع مؤلّف معيّن وثقافةٍ محدّدة.

** ** ** **

نهضة الحضارة

من جانبه أكد الكاتب علي السبيعي أن الترجمة هي العدسة المكبرة للتعرف على الآخر أياً كان، وقد أهتم بها العرب المسلمون الأوائل، وكانت أحد أسباب نهضة الحضارة الإسلامية، من ذلك يتضح أهميتها ودورها الثقافي والمعرفي والأنثربولوجي بشكل عام، فهي الترجمة فوق ذلك تقرب بين المجتمعات والشعوب، وتحقق أحياناً مالا تحققه أساليب وأدوات أخرى، كما أنها رافد في ضخ المعرفة وتحويلها إلى ثقافة وأحياناً ثقافة سلوكية في التمازج الحضاري.

وعن المملكة العربية السعودية فقد تعرفنا على جزء من تاريخنا عبر الترجمة للرحالة الذين زاروا الجزيرة العربية عامة والسعودية خاصة، وهذا يجعلنا نشكر الجهات التي تقوم بذلك وعلى رأسها دارة الملك عبدالعزيز، ورغم ذلك الجهد الكبير من الدارة وغيرها.

ما زلت أتمنى أن يكن هناك مركز سعودي للترجمة يشرف بأن يكون اسمه مركز الأمير محمد بن سلمان العالمي للترجمة، بحيث يتم ترجمة ما يضيف للمتلقي في كافة الجوانب المعرفية وليس التاريخ والجغرافيا فقط، بمعنى نجد ترجمة للنخب من الأعمال الأدبية والثقافية والاجتماعية، بشكل عام نحن فعلياً نحتاج مثل هذا المركز بملامح عالمية، خصوصاً أن المملكة العربية السعودية قطب عالمي وواقع معرفي لوجستي بين القارات.

لذلك الترجمة لم تعد حاجة بل احتياجاً في ظل العولمة، فليس من المعقول أن تستخدم صناعة بلد دون أن تتعرف عليه من هو؟ وتعرفك عليه يجعلك بالتالي تعرف مكامن القوة والتطور لديه، فتقلده على الأقل إيجابياً أو تبزه معرفياً وتطويراً، وهذا ما قامت به المملكة العربية السعودية في مجال الصناعات مثلاً.

لذلك وجود مركز الأمير محمد بن سلمان العالمي للترجمة بات أمراً في غاية الأهمية والضرورة، خاصة في وجود قدرات سعودية في كافة اللغات العالمية، يستطيعون أن يقوموا بالمهمة على أكمل وجه.

** ** ** **

مصادر متنوعة

ورأى عبدالله بن علي العليوي -إعلامي ومترجم- أن الكُتب اتسمت قبل عقد أو يزيد قليلاً بتوفر الكُتب المتنوعة التي تمت ترجمتها بلغات، ولعل أبرزها من اللغة الإنجليزية إلى العربية.

شهدنا قديماً الترجمة لكُتب كانت مقتصرة على بعض الموضوعات العلمية مثل الطب والهندسة والقانون وقواميس الترجمة والروايات؛، إلاّ أن هذه الموضوعات أصبحت ميسّرة وفي متناول اليد، وخلال العقد الماضي شهدت الساحة العالمية تطوراً نوعياً في مجال الطباعة والترجمة والنشر، وسهولة التوزيع على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، حيث بدأت الشركات العالمية بتسويق للكتاب في العالم وبأسعار مناسبة، تلتها عدة مراكز ودور نشر عالمية أوصلت القارئ إلى مصادر متنوعة وسريعة.

ومِمَا يجدر بالذكر أننا لاحظنا أن الكُتب اتخذت جانباً مهماً في حياة الناس، فقد تنوعت الترجمة للعديد من الموضوعات التجارية والاقتصادية والسياسية والسياحية وغيرها، مما جعل الإقبال يتزايد خاصة بعد نشر الكُتب للقراءة المجانية واستعراضها عبر الحاسب الآلي في الشبكات وعبر التطبيقات، وساهمت معارض الكتاب في شتى الدول في حراك الترجمة ونشر الكُتب، مما زاد من إقبال الجمهور ليختار منها ما يرضي ذائقته.

وهذا الثراء الثقافي يتسم بشمولية لمعظم الدول، إذ تعرفنا من خلالها على ثقافة الدول اجتماعياً وسياحياً واقتصادياً، وباتت الترجمة تحظى برعاية واهتمام كبيرين في شتى الميادين، مما ساهم في نشر الوعي الثقافي في أصقَاع العالم.

إن العديد من الهيئات والمنظمات العالمية بدأت في زيادة اللغات للترجمة، إذ كانت تقتصر على خمس أو ست لغات، لتصل إلى عشرات اللغات التي توصل المعلومة بشكل ميسّر لأبسط قارئ أو مثقف، ومن خلال عملي في التراث الثقافي غير المادي والمعني بتوثيق التراث بكافة أشكاله وعناصره التمثيلية والفنون الأدائية والحرف المهنية وغيرها، حيث بدأ انتشار ترجمة لهذه الألوان لبعض اللغات.

ومما لا شك فيه أن هذا العصر يشهد تطوراً سريعاً في إيقاعه، ما يتوجب معه العمل بشكل مهني في الترجمة وإيصال الكُتب عبر المواقع العالمية وشبكات التواصل الاجتماعي، وفي خطٍّ متوازن لذلك جمال التصميم وحرفية الطباعة، إن الكتاب الورقي أو الرقمي الذي بدأ يطغى في الانتشار أوصل الكثير من المؤلفين إلى ضرورة الحديث بلغة ميسّرة لتصل للقارئ المبتدئ، وأن تكون صفحاته قليلة، ومحتواه قوياً ومُفيداً وبأسلوب جاذب.

ولا يزال القارئ يطمح بالكثير من التراجم التي نافست وبقوة في السوق العالمي بأسعارها وسرعة وصولها، إضافة إلى وجود قوائم كبيرة لكُتب رقمية في المواقع العالمية.

** ** ** **

للترجمة أهميتها

من جهتها قالت بدرية محمد الشمري -معلمة لغة إنجليزية-: للترجمة أهميتها في نقل ثقافة الشعوب إلى بعضها البعض، وإثراء الهوية الثقافية، كما لها أثر لا ينكر في رفع المستويين العلمي والثقافي للجيل الحاضر، حيث إن المتتبع لتطوّر الحضارات الإنسانية وتنامي التقدم الإنساني يجد أن الترجمة ظاهرة تسبق كل إنجاز حضاري لأي أمّة، أصبحت حركة الترجمة ذات أهميهة حيوية للمجتمعات العربية وخاصة ونحن نواجه حملة ضد الإسلام والمسلمين واتهامهم بالإرهاب، سواء كان ذلك نتيجة عدم الاطلاع على الموروث الحضاري للحضارة الإسلامية أو سوء الفهم لهذا الموروث.

وقد نوه القرآن الكريم على أهمية الترجمة في حياة الشعوب ذلك لأن الناس خلقوا مختلفين في الأجناس والشعوب والقبائل واللغات والعادات وغيرها، مصداقاً لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ"، وبالتالي كانت حركة الترجمة بمثابة الجسر الحضاري الذي عبرت منه شعوب العالم للالتقاء ببعضها البعض، والاستفادة من المنجزات الحضارية لكل حضارة.

فالبلدان الساعية والجادة للالتحاق بركب التقدم تهتم بنقل أسرار التكنولوجيا والصناعات والعلوم المختلفة إلى لغتها، ووحدها الترجمة القادرة على بناء الجسور التي يمكن من خلالها عبور الإنجازات البشرية، أيضاً لها دور في التغلب على التحديات التي تواجهها حركة البحث العلمي في وطننا العربي، وتطرح آليات يمكن من خلالها إثراء هذه الحركة.

إن هواة التواصل الاجتماعي يهتمون بالترجمة في معرفة لغة جديدة فهي علم لا يقدر بثمن، ووسيلة لجعل التواصل أكثر سهولهة حيث تستطيع بضغطة زر أن تعرف معنى كل كلمة باختلاف اللغة المستخدمة، وهذا بفضل تطوّر التقنية الحديثة. إن انفتاح بلادنا على ثقافات مختلفة وسعيها إلى الوقوف بمصاف الدول المتقدمة ومواكبة العصر الحديث في تطوره التقني والمعرفي لدلالة واضحة على السير في مسار صحيح ومدروس من خلال نقل المعارف الأخرى عن طريق الترجمة واستكمال ما بدأه الآخرون من أجل رفعة هذا الوطن ورفاهية أفراده.

المصدر : https://www.alriyadh.com/1899219