الجمعة، 26 نوفمبر 2021

قراءة في كتاب «مابعد النظام» جوردان بيترسون

 كتاب Beyond Order: 12 More Rules for Life (ماوراء/مابعد النظام: ١٢ قاعدة أخرى للحياة) آخر كتب جوردان بيترسون، الفيلسوف الكندي وبروفيسور علم النفس الإكلينيكي في جامعة تورنتو. كتابٌ مذهل مثل بقية كتبه ومحاضراته ولقاءاته. كتبه في فترةٍ اعتبرها الأكثر رعبًا و فضاعةً في حياته، حيث كان يعاني في الأعوام ٢٠١٩-٢٠٢٠ متلازمة التململ الحركية Akathisia، وهي متلازمة قد تسبب الانتحار وفي غاية التعقيد من ناحية التشخيص أو العلاج. من متابعتي للبودكاست الخاص به في تلك الفترة؛ اتضح أنها كانت نتيجة أعراض انسحابية لعقار البنزوديازبين و أدوية اكتئاب SSRIs قرر التوقف عن تناولها. المهم أن بيترسون الآن بخير وفي أفضل حالاته تقريبًا. يصنّف الكتاب ضمن كتب مساعدة الذات Self-help ويصنف كذلك ككتابٍ فلسفي ونفسي. ولأنني لا أميل لكتب تطوير الذات، كان الجانب الفسلفي والديالكتيكي والتنظير السيكولوجي أكثر ما جذبني فيه. 

يقسم بيترسون الكتاب في ١٢ قاعدة (فصل)، وتتفرّع من كل قاعدة عدّة أبواب. لست في صدَد سرد "القواعد" هنا، ولكن مايهمّني هو الكتابة عن فلسفته و"خريطة معانيه"، كما يحب أن يسميها، وبالتأكيد أن مراجعةً واحدة لن تكتب كل شيء. 

موقف بيترسون الوجودي والعمود الأساسي التي تقف عليه بنية كتاباته وخُطَبه و"كليباته"، هو اعتبار أن الوجود والعالم يقوم على سَرديّةٍ لها هدف، ولا بد أنه هدف عادل وخيّر. البحث عن المعنى هنا؛ يعني بالضرورة القبول التام للمسؤولية، والمسؤولية كامنة في الذات الحرّة والمستقلة، العاقلة والواعية. في أحد الفصول يناقش قضية فقدان المعنى والشعور العدمي الناتج عن أسبابٍ تبدو بسيطة، ولكنّها في الواقع مركزيّة ومحورية، من ذلك الوحدة والفراغ والخواء الوجودي، عدم اتضاح الرؤية، فقدان الهدف والغاية، فقدان الاتزان بين الفوضى والنظام، والالتفاف في الأيدلوجيات. الأيدولوجيا على سبيل المثال، قد تبدو بحسب المكان والزمان، الطريقة الوحيدة الممكنة للعيش، لكنها في حقيقتها تحمل في ثناياها شعارات ختّالة تتغذى على الجماهير وتخدّر شعوب بأكملها. الاشتراكية مثلًا، كانت اليوتوبيا المنتظرة في وقتٍ ما، غير أنّها فكرة طفولية مستحيلة وخطيرة؛ أبادت عشرات الملايين، يستشهد الكاتب كثيرًا برسائل ألكسندر سولجينيتسن من كتاب «أرخبيل غولاغ».

على الرغم أن بيترسون لا يذهب إلى الكنيسة، إلا أنه يؤمن ويعتقد في التعاليم المسيحية واليهودية، ويقتبس من مقولات المسيح وآيات الكتب المقدسة. الجميل والجديد هنا؛ هو مهارته العجيبة في تفحّص قصص الكتُب المقدسة ووضعها تحت مجهره النفسي الأكلينكي وتحليلها. ينظر دائمًا للحياة بواقعية، ويروّض المعتقدات الميتافيزيقة والدينية ويوائم بينها وبين العُرف الإنساني والقيمة الحاضرة والمتوارثة. بعيدًا عن الكتب المقدسة، يركب بيترسون قطار الصيرورة التاريخية ويسترجع من الماضي مايستشرف به المستقبل. يربط الأساطير بالتحليل الـ"فرويدي"، وبنظارات كارل يونغ ينظر إلى الميثولوجيا. وأكثر من ذلك، يدرس مشكلات العصر من خلال شخوص دوستوفيسكي وهمينغواي وجورج أوريل.ن

كارل يونغ 

نشر بيترسون أكثر من ١٠٠ ورقة علمية في تخصّصه، خلال عام واحد(قبل كوفيد ١٩) زار أكثر من ١٠٠ مدينة حول العالم، وألقى فيها محاضراته وخطبه، كما قام بمناظرات مع سام هريس( فيلسوف و مفكّر أمريكي) وسلافوي جيجك( فيلسوف ومفكر سلوفيني) وغيرهما حازت على صدى كبير. قد تكون نصائح بيترسون واستراتيجياته في التنمية الذاتية أحد أسباب شعبيته الكاسحة، خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي، ولا بأس في ذلك فالرجل لديه شيء جادّ ليقوله و مشروع فكري ليطرحه بخلاف موهبته ونصائحه في تنمية الذات.