أنتقل إلى استعارة أخرى: المترجم كمستكشفٍ للغموض وفنانٍ خفي. فهو لا يكتفي باكتشاف خبايا النص، بل يفتح أبوابه الموصدة لاستنطاق فسحة التأويل، ويعيد تشكيله كقطعة فنية بلغة جديدة. هنا نستحضر قول أمبرتو إيكو: «الترجمة هي قول الشيء ذاته تقريبًا»[3]، لكن كلمة "تقريبًا" تحمل في طياتها مغامرةً إبداعية، خاصةً إذا كنا نتحدث عن ترجمة النصوص الأدبية. يسبر المترجم أغوار النص، يكتشف طبقاته الخفية، ويسعى لتقديمه بلغة جديدة دون أن يفقد سحره وخاصيته الفنية. المترجم هنا أشبه بعالم آثارٍ يزيل الغبار عن النص ليُظهر جماله الخام. وكما يوضح لورنس فينوتي في كتابه "اختفاء المترجم": «يُطلب من المترجم أن يكون حاضرًا في النص، لكنه يُجبر على الاختفاء في الوقت ذاته»[4]. هذا التناقض المحوري يجعل الترجمة فنًّا خفيًّا، حيث تُنسج لغة المترجم في نسيج النص دون أن تترك أثرًا.أما الاستعارة الثالثة فتُجسّد المترجم ككائنٍ مزدوجٍ يعيش بين لغتين وثقافتين. إنه وسيطٌ يحمل صوتين وهويتين، لا ينتمي تمامًا لأيٍّ منهما، وبالمران والممارسة يُتقن الموازنة بينهما، يوائم بين الأصل والترجمة. وكما يشير والتر بنيامين في مقالته الشهيرة "مهمة المترجم": «الترجمة ليست استنساخًا للنص، بل إحياءً لصوته في سياقٍ جديد»[5]. هكذا يصبح المترجم جسرًا حيًّا بين عالمين، يحافظ على روح النص ويُزيح الستار عن ثقافةٍ جديدة. هكذا يتجاوز المترجم دور الناقل التقليدي، ليصير قارئًا حكيمًا، وكاتبًا بارعًا، وفنانًا خفيًّا يجمع بين صفات الظل والوسيط والمستكشف.
بعد استعراض دور المترجم الخفي، نتساءل متى تتحول ترجمته إلى عمل أدبي؟ تصبح الترجمة عملاً أدبيًّا إذا أعادت خلق نص يتحيز إلى الفنية. الترجمة الأدبية ليست نسخًا آليًّا للنص الأصلي، بل هي عملية إعادة ولادة للنص في ثوب لغوي ومفهوم ثقافي جديد. هنا يتحوَّل المترجم إلى أديب يُعيد صياغة نص مواز ويبعث فيه حياةً جديدة. يقول كارلوس باتيستا في كتابه "المترجم كاتب الظل": «يمشي المترجم بين الكلمات الخادعة كأوديسيوس بين عرائس البحر يصغي جيدًا ليمسك بالمعنى، ويصم أذنيه ليتجنب إغراء الحرفية»[6].
بخلاف النص التقريري والذي يعتبر نصًّا واضحًا ومباشرًا، يعتبر النص الأدبي نصًا معتمًا على مستويات الدلالة والمعنى، ليس على المترجم الأدبي تخليص النص من عتمته، فالجمال يكمن في الغموض أحيانًا. لعلّ مهمّة المترجم تكمن في خلق نصٍّ مكافئ دلاليًا وفنيًّا مع الأصل؛ قد تكون هذه هي المهمة الأصعب، فالأصل في الترجمة الأمانة والمترجم خادم النص ولكن يجب ألا نبالغ في الأمانة والحرفية على حساب فنية النص والعكس صحيح. في تجربتي مع ترجمة الشعر، كتبتُ: «عليك أن تخلع ثوبك لترتدي معطفًا جديدًا، حتى لو طالت أكمامه، فطوِّل ذراعيك! الترجمة تشبه هدم منحوتةٍ رخامية بمطرقة فولاذية وإعادة بنائها من جديد». ترجمة القصيدة – كما أرى – أصعب من كتابتها؛ لاختلاف أدوات اللغة وخصوصية المجازات والثقافة. إنها استحضارٌ للقصيدة من لحظتها الفائتة إلى الحاضر الجديد.
تصبح الترجمة عملاً أدبيًا عندما تنجح الترجمة في خلق حوارٍ ماتع بين النص والمتلقي. المترجم مسؤول عن أكثر من مجرد الدقة اللغوية، وهو الحفاظ على الهوية الثقافية والثيمة الفكرية للنص، ما يجعل الترجمة عملاً ثريًا بامتياز. على سبيل المثال، تطلبت رواية "كثيب[7]" للكاتب فرانك هربرت وترجمة نادر أسامة استعادة جذور الكلمات العربية المشتقة منها أسماء الشخصيات والأماكن في النص الإنجليزي، مما حوَّل الترجمة إلى عملٍ أدبيٍّ مُستقل وفريد، يعكس حوارًا بين التراث والخيال العلمي. وكما يؤكد غونتر غراس: «الكتاب الأدبي يحتاج مترجمًا يُعيد خلقه بلغته»[8]. أشير في هذا السياق أيضًا إلى ترجمة الدكتور محمد آيت لعميم لبورخيس، التي لم ينقل فيها النص فحسب، بل حوَّله إلى ضيف مُقيم في الثقافة العربية، مُخلخلًا أي تصوّرات مُسبق..
كيف يتحول ظل الكاتب إلى كاتب؟ سنغير السؤال قليلا ليصبح متى تصبح الترجمة عملًا أدبيًّا جديدًا؟. بعد تحقيق الترجمة الميزة الفنية التي تحدثنا عنها، يجب على المترجم أن يترك بصمته على العمل، دون أن تطغى على صوت المؤلف، يجب أن يضيف جناحًا للنص ليحلِّق في فضاءات جديدة. تُعد البصمة الذاتية للمترجم عنصرًا جوهريًا في العملية الإبداعية للترجمة، حيث تُعكس شخصيته وأسلوبه، وتجعل العمل مختلفًا. فالمترجم– كما تشير دراسة أكاديمية[9] – لا يمكن أن يظل محايدًا؛ إذ تظهر سمات مثل الحدس والإبداع في اختياراته اللغوية، مما يخلق تفاعلًا بين شخصيته والنص الأصلي. هذه البصمة ليست عيبًا، بل هي ضرورة لفهم السياقات الثقافية وتأسيس أسلوبية خاصة للمترجم لا تتعدى ولا تؤثر على "روح' العمل الأصلي.
تنجح الترجمة الأدبية عندما تتحول إلى عمل جديد قائم بذاته، لا مجرد نسخة. على سبيل المثال عند ترجمة الشعر، يُعيد المترجم صياغة القصيدة، يحدد أفضل طريقة لنقل جرس القصيدة وصورها وجوهرها باللغة الهدف. هذه الاختيارات التي يواجها المترجم بالإضافة لثقافته ومعرفته وقدرته على التعامل مع أدوات اللغة تجعل النص المترجم موسوما ببصمته وأسلوبه.
لعل هيمنة المترجم على النص المتَرجَم يمنحه قدرًا من الاستقلالية، يوضح أمبرتو إيكو أن الترجمة تشبه «الابن الشرعي»[10] لأنها تحمل جينات النص الأصلي، لكنها تطور هوية مستقلة. الكثير من الأعمال الأدبية لم تنجح في لغاتها الأصلية لكنها نجحت مترجمة، ما يؤكد أن العمل المترجم ليس مجرد انعكاس للنص الأصلي، بل كيان مستقل يمزج بين بنات أفكار المؤلف ورؤية المترجم الإبداعية، من الأمثلة على ذلك: "الخيميائي" لباولو كويلو؛ لم تحقق الرواية نجاحًا كبيرًا في البرازيل عند نشرها لأول مرة، ولكن بعد ترجمتها إلى الإنجليزية ولغات أخرى، أصبحت من أكثر الكتب مبيعًا عالميًا. "لوليتا" لفلاديمير نابوكوف؛ على الرغم من أن نابوكوف روسي الأصل، إلا أن "لوليتا" كُتبت بالإنجليزية. لم تحقق الرواية نجاحًا كبيرًا في البداية، ولكن بعد ترجمتها إلى لغات أخرى، أصبحت من أكثر الأعمال الأدبية إثارة للجدل والشهرة. من النماذج الأخرى رواية "الأم" مكسيم غوركي، "دون كيخوتي" ميغيل دي ثيربانتس، وغير ذلك من الأعمال التي تميزت بترجماتها.
الترجمة ليست خيانةً للنص، بل هي ولادةٌ جديدةٌ تُعيد إنتاجه ككيانٍ جماليٍ مستقل. فالمترجم – بتعبير إديث غروسمان – ليس مجرد ظلٍّ للكاتب، بل شريكٌ خفيٌّ في صنع الأدب.
______________________________
نشرت المقالة في مجلة ساتا الفصلية، الصادرة عن جمعية الترجمة السعودية - العدد الثالث - إبريل 2025
[1] «بعد بابل جوانب من اللغة والترجمة» جورج شتاينر، صدر لأول مرة عام 1975 عن دار نشر جامعة أكسفورد.
[2] Why Translation Matters, Edith Grossman. 2010 by Yale University Press
[3] «أن نقول الشيء نفسه تقريباً» أومبرتو إيكو، ترجمة د. أحمد الصمعي، صدر عن المنظمة العربية للترجمة عام 2012
[4] «اختفاء المترجم تاريخ للترجمة» لورنس فينوتي، صدر لأول مرة عام 1995، ثم ن ىشرت طبعة منقحة في عام 2008.
[5] «مهمة المترجم» Die Aufgabe des Ubersetzersوالتر بنيامين، 1923 نشر هذا المقال كتقديم لترجمة بنيامين قصائد لشارل بودلير.
[6] «المترجم كاتب الظل» كارلوس باتيستا، ترجمة محمد آيت العميم صدر عن دار خطوط وظلال عام 2020
[7] «كثيب» فرانك هربرت، ترجمة نادر أسامة، دار كلمات للنشر والتوزيع
[8] الترجمة الأدبية رحلة إبداعية بين اللغات والهويات، جريدة البيان عدد 23/10/2022
[9] بصمة المترجم الذاتية انعكاس لشخصين https://shorturl.at/I1RQu
[10] قراءة في مشروع أمبرتو إيكو التأويلي في الترجمة، دراسات لسانيةVolume 2, Numéro 9, Pages 303-315