الفصل ١"كانت الساعة في برج سانت جورج تشير إلى الثامنة وعشرون دقيقة، تتأخر سبع دقائق دائمًا، وهو يعرف ذلك من خبرته الطويلة، لكنه شعر أنه ثمّة غرابة صغيرة ومحتملة هنا. كان البرج هو الشيء الوحيد في محيط مئات الأمتار الذي نجا من القصف الحربي. ربما خطر في باله، أن قلبه توقف لسبع دقائق. نجا والآن يجلس القرفصاء بأعمدته وأقواسه مثل ضرسٍ قديم. كانت القذائف موجهة نحو الكاتدرائية، لكنها بالكاد نجت، أُخفي زجاجها الثمين منذ زمن طويل، وظلّت جدرانها الجرانيتية وأبراجها آمنة من كل شيء باستثناء الضربات المباشرة. كذلك بمعجزة، نجت الشوارع الصغيرة المؤدية إلى الكاتدرائية أيضًا، مما جعل هذا التمثال الخالد للورع النورماندي يربض في مكانه منذ العصور الوسطى، محاطًا بمجموعة من الأزقة المتعرجة."
الفصل ٢" كانت هناك دائمًا، بالتأكيد، احتمالية إجراء ولادة قيصرية طارئة عندما تكون الوردية في رمقها الأخير. سينبح الأطباء حينها في الهاتف، وستتهادى القابلات إلى غرفة العمليات، سيُعِدن ترتيب قطع الأثاث حتى لا تتسبب في إعاقة رؤيتهن لحظة دخول الطفل إلى العالم. سيتحقق طبيب التخدير من الأدوية والغازات التي قد يحتاج إليها، وستتذكر الممرضات مرة أخرى شعور اللحظة التي دفعتهم إلى المهنة. سيتأكد داود أن المريضة ستكون أثقل من معظم المرضى، وأن رفعها إلى طاولة العمليات سيكون أكثر صعوبة. سيكون هناك أيضًا الكثير من الدماء، حيث يشق الجرّاح طريقه إلى الرحم. ومع ذلك، سيكون الطفل دائمًا لطيفًا عندما يخرج. سيلاحظ داود أشد المتشائمين والمتهكّمين في غرفة العمليات يتحولون فجأة إلى بشر عند رؤية تلك النطفة تتنفس بصعوبة، فيبتسمون ويصفّقون."
الفصل ٣"رأى فتاة تقترب من الجانب الآخر للطريق. كانت نحيفة وطويلة القامة، بوجه شاحب طويل. سارت ببطء عبر الجسر، خاوية الوجه وغير مبالية. توقفت ونظرت بعيدًا عنه. أثارت ثقتها وهيئتها الباردة انتباهه. ثمّة بصيص من الغطرسة والبؤس فيها. درَسها جيّدًا خلسة؛ كانت عيناها داكنتين لكن بهما ضوء سائل، كما لو أنها على وشك أن تنفجر بالبكاء. فمها صغير، مجموع في شكل ألماسة، بسبب أحمر الشفاه الذي انسكب على شفتها العليا. وجهها في حالة ذهول، كما لو أن خالقها استعجل إكمال الجزء السفلي. كانت ترتدي جينزًا ضيّقا، مرفوعًا قليلاً عند ربلة الساق. بدَت سترتها باهتة ومتسخة، تصل إلى فخذيها، وتُظهرها ثقيلة من الأعلى."
الفصل ٥"كانت النساء الواقفات خلف منضدة تقديم الطعام يرتدين زيًّا أبيض، متيبسات، مشققات وبائسات، بسبب الحرارة الشديدة. تساءل مرة أخرى؛ لماذا يبدو العديد من الموظفين ممن يعملون في الوظائف الخدمية في المستشفيات بهذا الشكل المنهك والمتعَب. بدت النساء الأكبر سنًّا غير مهتمات بمظهرهن، وبدا الشيب فيهن قبل أوانه. بدا الرجال الأصغر سنًا ممن نبت الشعر في وجوههم بمظهر الضحايا. أما الرجال الكبار؛ فكانوا يمضون أوقاتهم متكّئين على حقائبهم المصنوعة من الكتان، يحدّقون بالمارة بملامح حادة ومتجهمة، بعد أن توصلوا إلى قناعة تمرّنوا عليها طويلًا؛ بأن واجباتهم تتلخص في مقاومة كل المحاولات لجعلهم يفعلون أي شيء. "هل أبدو بذلك الشكل؟ " تساءل داود. لم تكن الممرضات بذلك الشكل، كنّ مختلفات.
رأى كاثرين تلتقط صينيتها، وتستدير لتتخطى الصف الذي ينتظر وراءها. وقعت عيناها على وجهه مباشرة. كان من الصعب تفاديه لأنه الرجل الوحيد في الصف. توقفت بجانبه، وهي تبتسم متفاجئة ومستمتعة بما لا يدعو للشك. ابتسم لها، لم يخطر على باله أي شيء مثير للاهتمام ليقوله. نظرت إلى ماوراء الصف ثم أومأت برأسها، تعشّم أنها قصدت حجز مقعدٍ بجوارها. لم يكن لديه وقت للتفكير في هذه الأفكار اللطيفة خاصة، وأن مشرفته المحلّية لاحت في الأفق أمامه. بزيها الأزرق الداكن وقبعتها المزينة بالدانتيل، بدت في الصورة المثالية للوجاهة الفيكتورية. تحدث الناس عنها كسيدة لطيفة لكنه لم ينخدع بما قيل عنها. كان يمكنه أن يراها، وهي تختال وتتباهى في معسكرات الاعتقال القرمية، تحمل مصباح فلورنس نايتينجيل[1] وتصيح هاتفةً بكلمات التشجيع للجرحى والمُعدمين. كانت كبيرة وعريضة المنكبين، بمثابة أم خاوية العقل وصغيرة القلب.
"مرحبًا" قالت، وهي تبتسم. "من سانت نيكولاس، أليس كذلك؟ "
كانت سانت نيكولاس مستشفى للأمراض النفسية قريبة منه، يأتي منها طلاب التمريض الذكور للتمرين والممارسة في المستشفيات العامة، وكان يُطلق عليها معظم الناس "دار المجانين". عرف داود، من الشائعات العامة، أن مرض الزهري كان منتشرًا هناك، وأن نيتشه يتجسد هناك، وأن سوء المعاملة وإيذاء النفس كانا الشرطين الأساسين للوجود هناك. أصرت المشرفة أن تسأل داود كل مرة تلقاه؛ ما إذا كان قادمًا من سانت نيكولاس، وعلى أي حال كانت تتحدث معه دائمًا بصوت هادئ ونبرة ملائمة توحي بأنه ربما كان يفعل شيئًا آخر غير العمل هناك. في المرة الأولى، أصرت على الاتصال بقسم العمليات للتحقق من قصته، ولعق كل مقطع من اسمه قبل أن تخرجه من فمها. كان يشعر بالقلق من أنها قد تتصل بـ سانت نيكولاس لمعرفة ما إذا كان هناك مجنون طليق. أو أنها قد تمنعه من تناول وجبته، وترسله ليأكل في صالة الطعام السفلية مع الحمالين وعمال النظافة، "والله يعلم ما لذي يضعه الطباخ في حسائهم! ". أطلق عليها "حسونة بلومفونتين [2] " لثقته من أنها كانت موجودة أيضًا أثناء حرب البوير، حيث ألقت محاضراتٍ على النساء والأطفال الجياع في معسكرات الاعتقال حول حكمة الهزيمة وحكم الإمبراطورية البريطانية.
"هل يمكنني الحصول على المزيد من البطاطس، من فضلك؟ " سأل السيدة العجوز ذات الشعر الرمادي المنحنية على الخضراوات، ورسم ابتسامة زلقة على وجهه. سمع في الخلفية المشرفة تتأفّف بامتعاض. عبست مقدمة الطعام وأحكمت قبضتها على الملعقة. تساءل داود عن عمرها، هل بدت من نوعية السيدات اللاتي وضعن أبناءً يجوبون العالم الآن، يقتلون ويعذبون البشر في حروب عالمية؟ هل قاتلت هي نفسها في متاريس معركة مجهولة للحفاظ على الخط الأمامي من الدراويش الصاخبين والوحوش النتنة؟ أمسكت السيدة ملعقتها بيدٍ واحدة، وغطت البطاطس باليد الأخرى، كما لو كانت تتوقع منه أن يلتقطها بنفسه.
رأى كاثرين تجلس عند طاولة بجوار النافذة. لم تبد في حالة تساعده على درء مصاصي الدماء من غيلان الإمبراطورية القديمة. بدت متعبة ومحبطة. "أيتها الغالية كاثرين، لا تخفِ" همس. نظرت إليه وابتسمت، وشعر بمعنوياته تتحسن. ما الذي يمكن لرجل مثله أن ينكره؟ رجل تجرّأ على الكثير. أكل لحم الخنزير عندما جاع، وخالفَ كل شعائر شعبه. شرب الكحول تحدّيًا لإلهه، وزحف على يديه وركبتيه بحثًا عن لقمة العيش. كان قد واجه الغرغونات[3] والصقاليب[4] الإمبراطورية، وأجبرهم على الفرار. هل سيجرؤ الآن على طلب يد إحدى أجمل خادمات الإمبراطورية؟ "
** ** ** ** **
"عزيزتي كاثرين" قال في نفسه. "ها أنا جالسٌ، أحاول ترتيب وجبة فاخرة بدعوتك للعشاء. ألا تشفقين على خفتي وتلعثمي؟ عليك أن تدركي أن دعوتك للخروج معي ليس لها صلة ثقافية بالنسبة لي. فأنا حقًا لا أعرف كيفية القيام بذلك، ولا ينبع الأمر من حسٍّ غريزي لدي. أعتقد أنكِ تفهميني. للتمسك بنزاهتي الثقافية، عليّ أن أرسل عمتي للتحدث إلى عمتك، بتكتم، التي ستتحدث بعد ذلك إلى والدتكِ، التي ستتحدث إلى والدتي، التي ستتحدث إلى والدي، الذي سيتحدث معي. ثم عليّ الوصول إلى والدكِ، الذي سيصل إلى والدتكِ، التي - إذا ما سار كل شيء على ما يرام - ستقترب منكِ وتتحدث معك. ثم العكس! "
"هل تتناولين العشاء معي الليلة" قال."
** ** ** ** **
"عزيزي هير نيتشه" تشدّق في حديثه عندما غلبه الاحتقان. "يبدو أن هذا الهوس بالإرادة مجرّد طريق مختصرة للوحشية برأيي على الأقل. لقد عذبتنا وحوش لا نهاية لها منذ أمد لا يعلمه إلا الله، جميعها مشوّهة بفكرة الإرادة. لا أعتقد أنك قد تهتم بإصدار بيان رسمي بهذا الصدد؟ إذا سألت عيدي أمين عما كان يعتقد أنه يفعله، فسيشرح لك وعلى طريقتك. بافتراض أنه كان قادرًا على شيء لا يعبر عن تلك الإرادة! ليس هناك حاجة للسخرية. إذا لم يعجبك عيدي أمين، فحاول مع ماكبث. "
الفصل ٦"لم يكن ينوي زيارتها. كان يرغب في التجوّل في حديقتها أو الاختباء خلف سياج الصنوبر، وانتظار ظهور وجهها المضطرب عند النافذة؛ عندها سينوح بصرخة يائسة تحت ضوء الشفق الفضي، ويراقبها وهي تشعر بالذنب. "كاثرين، كاثرين". سيغادر قبل أن تتكلّم، سيختبئ في أشجار الغار قبل أن تتمكن من تعويض نفسها ببضع كلمات لطيفات. قد يخنق جرْوها، ويتركه يتدلى بمنديلها على فرع شجرة."
الفصل ٨"كان شتاء منعزلًا. الأيام رمادية ومظلمة… لم أشهد مثل هذه الأيام من قبل. الندى وصقيع الليالي، الغربة والمسافة إلى الوطن. الأمسيات الطويلة تكتم قهقهات البشر. تكفهر الليالي وتصبح مروّعة، يتزايد حجم الرجال والنساء، يكبر محيط خصرهم بضعه سنتميترات، وتصبح نظراتهم قهرية في اللقاءات العرضية. الصقيع يجمد العرق حول منطقة الشرج، عرق الخوف والترقب. تفتح الرياح شروخ الخشب. أمسيات شتوية طويلة وقاتمة من الندم المؤلم. أمسيات شتوية طويلة وقاتمة تستحيل فيها ذكريات الأصدقاء والوطن عذابًا جهنميًّا."
** ** ** ** **
"آه، شكرًا" قال. "أتمنى لو كنت أعرف. لا أستطيع سوى تخيل نفسي، أتحدث لضحية مجهولة محاصرة في حفلة، تعود إلى البيت مندهشة من فضيلتها لأنها قضت المساء كله تستمع لاعتراف شاب مكتئب وحيد."
الفصل ٩"أحب لويد قراءة القصائد بصوت عالٍ، كان يلقيها بتمّهل وتؤدة، لا يلتفت إلى الأعلى أثناء قراءته. شاهد بابلو نيرودا يفعل ذلك على التلفاز، وأعجب بوجاهته وتواضعه. كانت محاولة لويد للتصرف بنفس الطريقة أكثر فظاظة، حيث قدم الشاعر المتذلِّل عرضه المضني وموهبته بينما كان يشك طوال الوقت أنه أفضل بكثير من تقويم مستمعيه له. وجد داود القصائد مملة، ونادرًا ما حقّق رغبات لويد للتعليق والحديث. لم تكن هذه نهاية بؤسه، فهو على استعداد أن يستعرض قدراته البلاغية في مونولوج لا نهاية له حول التحولات في الأسلوب والصور، والتورية هنا والأزلية هناك، وكل ما يتعلق بالنماذج البدئية وأساسيات فن الاستذكار بما يكفي لإنصاف وتقدير تعليمه في المدرسة العامة الشهيرة في المدينة."
الفصل ١٠ابتسم لها. "ربمّا أنني أحمل على كاهلي عبئًا ثقيلًا، هذا ما كان عليه الأمر منذ بضع سنوات" قال، "في المرة القادمة التي يخبرني فيها أحدهم أن أمي قردة، أو يعبس لمجرّد دخولي إلى مطعم ما، سأذكّر نفسي بألا أكون حساسًا للغاية. سأقبّلهم بشفتي المطاطية، وأستمرّ في تلميع هالتي. أو إذا طاردني بعض المتشرّدين المتهورين عبر الشوارع المهجورة، وأردوا سحق أعضائي الذكرية بركلات موجّهة، سأوجه نداءً لضمائرهم الإنجليزية. لن أفكر في لعن أسلافهم القراصنة الذين نهبوا خزائن العالم، وعادوا إلى ديارهم مثل لصوص منتصرين، يضحكون على ضحاياهم. لن أتوقع الكثير أو أتذمر لأجل كلمة مسيئة. ها! ها ها! لست أنا من يرضخ! "
الفصل ١٢"رويت له قصة طويلة، قصة سلسة وحكيمة، نسيج من الأكاذيب، ورصدت شكوكه تستحيل إلى سحر. أخبرته عن رجلٍ يقف على شاطئ البحر، متجاهلاً آلامه، في انتظار الأمطار التي تنبّأت بها المواسم، وكيف استمرّ يتبوّل بلا نهايةٍ. رأيته يضحك، وكأنني أرى طيرًا يحلّق في السماء، أو خيلًا يركض على جانب تلٍّ أخضر. على رصيف الأميرة مارجريت البحري، أطعمته أكاذيب سهلة على اللسان، ومن غير المرجح أن يخطئ أحدٌ في اعتبارها حكمة. شاهدنا فرج يبتلع الماء مثل سمكة قرش، فرج بساقيه المعوجّتين اللتين تجعلان الحياة عذابًا له. كان الماء مائجًا ومضيئًا في اليوم الذي فاز فيه ببطولة المدارس. رصيف الأميرة مارجريت، سمي تيمّنًا باليوم الذي وضعت فيه الأميرة الطيبة قدمها على أرضنا المتواضعة، وكرمتها للأبد بلمستها الكريمة في العام ١٩٥٦. لوحنا حينها ترحيبًا بقدومها. قاتلنا من أجل الأعلام الصغيرة، واضطررنا إلى رفع علم الاتحاد، ورفع الآخرون الأعلام الحمراء لسلطاننا المحمي. على الجانب الآخر من الرصيف ثُبتّت أربع بنادق في الخرسانة لتواجه البحر. اُستخدمت كألعاب نارية تحتفل بمقدَم الأميرة. سمعنا صدى البنادق عند وصولها، ولوحنا بأعلامنا، واستقبل المقيمون البارجة الملكية. اُستخدمت البنادق لأغراض أخرى في وقت لاحق."
الفصل ١٣" نظرت إليه المرأة التي فتحت الباب باهتمام لكنها لم تدعُه للدخول. كانت طويلة ونحيلة، متوردة بملامح حادة، وأنف منتفخ. كانت هناك طويات حادة في زيها، واعتقد أنها تستعد لوردية الليل. ليونة حركتها وقوامها يخففان من مظهرها، يجعلانها تبدو فوضوية وعفوية، بعكس ما توحي ملامحها المحفورة. حملت حركاتها البسيطة نوعًا من الإثارة الجسدية غير الواعية، وبينما كانت واقفة عند الباب لم تكن غير مرحبة. ومع ذلك، كان متهيّبًا ومتلعثمًا في كلماته. تحدثت عيناها عن سنوات من السخرية والملل. "لا بدَّ، وأنها للتو استيقظت" قال في نفسه. "هذا هو السبب في ثقل عينيها وذوبانهما. "
** ** ** ** **
"فاجأه أنه استطاع إبقاء ألم غيابها منفصلًا عن ذكرى «المتسلط». توقع أن يفيض كل شيء من ذات الكأس، ويختلط في ذات الشراب الذي سيسممه ويشوش عقله.
"عزيزي «المتسلط»، إنها أفضل شيء حدث لي هنا. أستطيع أن أشعر به. لا أعتقد أنها تستطيع ذلك. ما لذي تقصده بأنني يجب أن أفعل شيئًا حيال ذلك؟ ربما يرتدي هذا الشخص الذي خرجت معه سترات، ويمتلك مزارعًا وسيارات، ويركب خيولًا. لا أعرف ماذا كانت تفعل معي. كان من المتوقع دائمًا أن تنتهي الأمور بهذه الطريقة، تعود إلى الحياة المريحة التي تعرفها. هل تلومها على ذلك؟ تنتشر من بيتي رائحة كريهة، وتفوح من جسدي رائحة الكسل والشفقة على الذات. هل تعتقد أنه يمكنني إخفاء مثل هذه الأمور؟ ما الذي يهمك في هذه الأمور؟ لقد حولتك تلك الأرض معدومة الشفقة إلى غبار. "
الفصل ١٤"ذهب داود إلى المطبخ ليعدّ بعض الشاي. كانت النافذة مفتوحة، سمع من الخارج ما يبدو أنه صوت كرة قدم ترتدّ على الخرسانة، صوت محبط ويسلب الروح. ربما كان صبيًّا يتجول في طريقه إلى البيت من الملعب في الظلام الفضي لأمسية صيفية متأخرة. تذكّر طفولته، عندما كان يلعب بالكرة في طريقه إلى البيت عند الغسق، وحيدًا ومرتابًا من أوجاع لا يمكن تأويلها. انحنى للاستماع بشكل أكثر وضوحا. مرّت طيورٌ أمام ناظريه في شكل شريط أسود، بسرعة خاطفة لدرجة أنه لم يكن متأكدًا إذا كان قد رأى أي شيء على الإطلاق. ظلّ في مكانه، لم يرغب في العودة إلى الداخل بعد. ذكّرته الكرة المرتدة بصبيٍّ صغيرٍ تعافى بشكل غير متوقع من الحمى. أضعف من أن يلعب مع بقية الأولاد، ومريض للغاية فلا يستطيع العودة إلى المدرسة، ولا أحد يهتم به باستثناء «سلكة». الصبي المجنون الذي أصبح صديقه لأنه وحيد أيضًا، الذي اختبأ وتذلّل متوقّعًا الرفض والإساءة. وفي ذلك الصباح في ديسمبر، هرب منه بينما كان «المتسلّط» يتنمّر على تصرفاته المجنونة. "عزيزتي كاثرين، كان عليك أن ترينا عندما انطلقنا في عباب البحر! ليس ذلك الكائن المهزوم الذي يشق طريقه في الأحياء الفقيرة الرطبة. كان عليك أن تري صديقي «المتسلط»! كان البحر هادئًا وضوء الصباح ينكسر في الزرقة، والشمس حارة على أكتافنا. التقط الشراع النسيم، وانزلقنا على البحر بهسهسة مركب لوّثه الزيت، وشق صفحة الماء. بدأ «المتسلط» في الغناء، مقلّدًا الفنان الكيني ياسين. غنّى بشكلٍ سيئٍ للغاية، وفعل ذلك لإثارة الضحك فقط. ضحكنا ملء أشداقنا بسعادة صاخبة، ولكوننا شباباً، وعلى قيد الحياة، رفعنا رأسينا وحلّقنا صوب السماء. أتذكّر أنه وقف، وتطلع للخلف نحو اليابسة. ثم استدار نحوي، وقال: أليست جميلة من هنا. كان من الجيد أن نكون خارج البحر. كان الأمر أشبه بالهروب من غرفة خانقة والركض بحرّية في حقل مفتوح، وإشباع رئتينا بالهواء النقي. كانت المياه باردة، كما يمكن تخيّلها، ليست مثل مياه الصنبور الدافئة. بدت المدينة غير واقعية من بعيد. تلك الواجهة المائية الشهيرة، بمنازلها البيضاء ومآذنها. كانت بمثابة نموذج غريب في مكتب هندسي، نظيف ومرتّب، تخالف من تلك المسافة حقيقة الفوضى والقذارة التي تتخم أزقّتها الضيقة. لطالما تحدّث الزوار عن سحر شوارعنا الضيقة ومنازلنا المرتفعة بشكل حاد، والرائحة النفاذة للتوابل في الهواء. كانوا يشاهدون المكان لأول مرة من البحر، من مسافة تشجع على مثل هذا الخداع والوهم. من هناك، لا يهم أن النوافذ أغلقت بشكل ساحر على غرف مكتظة بالبشر، وبالنساء المكدّسات والمختبئات عن نظرات اللذة والشهوات. لم يكن هناك أزقة كريهة الرائحة تمرّ منها، ولا حُفر زلقة تتجاوزها، ولا شيوخ متعصبون يتطفلون على العابرين. من البحر، بدت البلدة القلب الريان للجنة. اقترب أكثر وعليك أن تغض الطرف عن المزاريب اللزجة، وجدران المنازل التي تحولت إلى مبولات في الهواء الطلق. اقترب أكثر حتى نرى ما إذا كنت داكن البشرة أو أبيض، صديق أو عدو."
الفصل ١٥"في بستانٍ من النخيل، مكسو بالأعشاب والطماطم البرية، اكتشفنا بلدة تحت الأرض. توقفنا لدراسة حجم البلدة، وأعمال المستوطنين بها. كانت نيتنا القبض على حفنة صغيرة من الوحوش، لتعذيبها وتشريحها بسهولة. لم نكن موضع ترحيب، وسارعنا وابتعدنا عن الأنياب الشرسة حتى أنهكنا الجوع والتعب، وسقطنا تحت شجرة المانجو. أوراق نباتية عفنة، ودبال نتن، ومانجو ناضجة تنضح مرتوية من الأرض الخصبة. أطلقنا على هذا المكان اسم حديقة المانجو. صوّتنا لصالح «المتسلط» العملاق ليتسول شيئًا يفيد الصف الأمامي الجائع للعرق المتحضر. المانجو على الأرض في ارتواء تام، تنزّ الزّحار تحت سحب الذباب. "
** ** ** ** **
"مسح «المتسلط» الأتربة عن غنائمه، واستحوذت فكرة النظافة على تفكيري. أمسكت الجوع وعلقته في حالة انتظار، حذرته من الطمع والجشع. "يا أمي في قلبي" دعوت، "أحتاج إليك الآن. أخبريني بالحقيقة، يا فوّارة الصحة، هل سأموت أولاً من الجوع أو الزّحار؟ يا من تمسحين مؤخرتي، لقد أنفذت كلمتك في الرخاء والشدّة، في أغلب الأحوال، ولكن الآن تزعق الكلمات من أحشائي، وترسل بالتنبيهات على بساط الريح. هل يمكن أن تكون الحية، الأفعى الخبيثة، هي التي تغويني لأكل الثمرة وتجاهل كلمتك؟ " زحفت إلى أجمة، وأفرطت في أكل الفاكهة المحرمة، وانتابني شعور بالذنب. ارتعدت الأرض من أحشائها، لكنني لم ألق لها بال، قانعًا بما فعلت.
جثوت أنتظر الرعد يصعقني، في حين كان «المتسلط» ينظر إلي بذهول وثني. "لقد رأيت الخطأ في طريقي" همستُ. "أثمْت عندما علمت أنني آثم. ليس لدي الحق في طلب رحمتكِ، وكل ما قمت به يثير غضبك. سامحيني، سامحيني مرة واحدة فقط، يا أم الصحة. لقد أخطأت. " منعت أم الصحة يدها. تركنا ذلك البستان الخبيث، وأنا مقيّد ومعزّر، و«المتسلط» مفعم بالبهجة والاكتمال.
عند الشلال. بدا وكأنه ينبغي أن يكون هناك طاحونة هواء كدليل على التقدم، ودليل على الثقافة الإندونيسية القديمة. أقدامنا في بركة الماء عند قاعدة الشلال، تركل الماء ببهجة المراهق.
شربنا الماء بأقدامنا، مشينا حتى الصخور اللزجة في منتصف البركة، بأجساد نصف مغمورة مثل حيوانات قشرية مغطاة بالوحل. يَدٌ على الخاصرة والتقطنا الصور لنريها للأصدقاء في الوطن. سمينا هذا الصخرة «مؤخرتي السالفة».
بينما كنا نجلس تحت تلك الشلالات المتدفقة، نظرنا إلى ما يحتمل أن رآه الرحالة القدامى. في ذات المكان الذي ربما وقف عليه السلطان الإندونيسي، حدقنا بنظرة ثاقبة تمزق الستار غير المفهوم للطبيعة. تحمّل، يا «متسلط»، وثق بثبات عزم نظرتك وقوتها. كم من رجال وقفوا حيث وقفنا ولم يروا شيئًا مما رأيناه؟ لقد اختارنا الله، وأقول هذا بكل تواضع ممكن. كان ذلك قدرنا. جلسنا على حافة بركة ممتلئة، ورأينا العالم بلا نهاية باستيعابنا المتواضع، في حلم يقظة سخيف ومخادع. كانت كلمات أسياد الماضي من الموتى تدق سندان أذنينا لتأكيد مصير عرقنا، لاستعادة ثقتنا بأنفسنا في أوقات الشدائد. ليس لدينا جنون التأكيد على الذات والحرص على الدنيا. كانت مهمتنا أكبر من الجميع. "
الفصل ١٦" سارع بالعودة إلى البيت. قال لنفسه ألا يتوقع أي شيء. "واجِهْ الحقائق، يا فتى. حصلت على طبيب شاب وجذاب، إنجليزي ابن إنجليزي. ثري، ووالده كذلك ثري. في غضون أسبوعين من الآن، سيتجولان عبر فرنسا. سيسافران إلى فلورنسا في العام القادم. لن تخطئ في اختيارها، حتى لو تبين أنه يضرب النساء. انظر الآن للجانب الآخر، انظر إليه باعتباره منافسك الذي اختارته. رتّب الأحداث كما تريد، ستنتهي لذات النتيجة. أجنبي يحمل فصلًا كاملًا ومفصّلًا من الندوب المروعة. زبون ساقط، تجاوز أفضل أوقاته، اضمحل مظهره. يعيش في حي قذر متعفن، ولا يملك بنسًا. صديقاه الوحيدان اثنان من الحمقى يكرهان بعضهما. يكسب قوته بتنظيف الأرضيات في المستشفى، وعلى استعداد لأن ينظّف مراحيض مواقف السيارات. حتى والده يكرهه! لذا، واجه الحقائق، وأعد نفسك لتقبل القادم كرجل عوضًا عن النحيب في أنحاء الأرض وتبديد كبرياء أبناء جلدتك. " ولكنه ما زال مسرعًا يعود إلى المنزل. "
الفصل ١٧""هربت! " قالت بعد قراءة رسالته، "كل تلك المخاطر للوصول إلى هذا؟ هل هذا ما يجعلك حزينًا؟ "
" لا أعتقد ذلك. ربما يبدو أحيانًا أن هناك الكثير من الجهد المبذول عبثاً. كل الجهود التي بذلتها من أجل البقاء انتهت إلى هذا؟ كما لو كان لديك خيار. لكن لا، ليس الأمر كذلك. الأمر يتعلق بكونك غريبًا. هذا ما يسحقك في الحقيقة. يستمر المجتمع الذي تعيش فيه بطريقته المعقدة، غير مبالٍ بك تمامًا. لا يحتاج إلى أي شيء منك، وفي المقابل لست على صلة به. أنت حر. لكنك أيضًا بلا وظيفة. افعل ما تريد، لا فرق. كما ترين، أحيانًا يكون من المغري التفكير في نفسك كما لو أنك في منفى ما. النفي يعني انعدام وجود الخيارات. تظن أن ثمة هدف أو مبدأ وراء ما تفعله. ولكن في الحقيقة الأمر أقل رفعة وسموًّا من ذلك بكثير. المبادئ، إذا نجت من سحق الروح، يتبيّن أنها طموحات صغيرة مخادعة للنفس. أريد أن أصبح محاسبًا؛ هذا النوع من الأمنيات. ربما الطموح الحقيقي هو الهروب. ليس للهروب من شيءٍ بعينه، مثل تهديد حياة أو إنجاز، ولكن أن تهرب كنوعٍ من الدراما التي تبعث للحياة معنى. كما تقولين، هذا ما تركض إليه، هذا ما تهرب إليه. عوضًا عن التحليق مع المثاليين المتشابهين في التفكير، تتعثّر أنت بين الأخشاب في طوف النجاة الصغير الخاص بك، محاولًا تذكّر أسباب تحطّم هذه السفينة. "
لم تقل شيئًا، وهي تراقبه ينكمش في كآبته. شعرت أنها فهمت شيئاً عن وحدته، لكنها لا تريد أن تبدو متسرّعة. بعد لحظة بدأ يتحدث مرة أخرى. أخبرها عن الوداع الخفي لوالديه، وما همس به خلف الباب الأمامي، قبل انطلاقه بمفرده إلى موقف سيارات الأجرة. "
** ** ** ** **
"ليس لدي أي شيء ضدك شخصيًا" قال السيد مارش، متحدّثًا إلى داود. "بعد كل شيء، دعوناك إلى منزلنا. ولكن هناك الكثير منكم هنا الآن، ولا نريد أن تُجلَب الفوضى من كل تلك الأماكن إلينا هنا. لقد قدّمنا بالفعل ما يكفي لشعبكم".
استمع داود بصبر إلى استعراض الغطرسة والاستهجان ذلك. تغيّرت ملامح كاثرين، وبدت غاضبة، وسألته ما إذا كان يريد الرحيل. هزّ رأسه. جلس لويد بصمت في مكان قريب، وتساءل داود عن سبب إصراره في مجيئهما. في النهاية، نهضت السيدة مارش لتحضر الشاي، ودعت كاثرين لمساعدتها. بحلول هذا الوقت، كانت كاثرين تشتعل غضبًا مما أثاره السيد مارش، وعندما غادرت الغرفة نظرت إليه بامتعاض شديد.
"كان يجب أن تفكر في كل هذا قبل أن تنطلق في مهمتك الحضارية" قال داود. "لست مضطرًا للقيام بذلك" قال لنفسه. لقد كان يؤدّي واجبه الاجتماعي فقط، يُثقّف العالم بأسره عن مزايا التبادل الثقافي. أن يكون بعيدًا عن الواقع، غير مدرك لسخافته وسعيدًا بذلك مثل هذا الرجل؛ تلك صفات لا يمتلكها سوى مشيّدي الإمبراطوريات. لقد كان الأمر نفسه مع ملوك الصين وأباطرة الروم الذين تجاهلوا التلميحات الأكثر وضوحًا لدمارهم الوشيك. تباهوا وتفاخروا، ولم يتمكنوا من تصور ما صنعوه من شخصياتٍ هشة ومثيرة للشفقة أمام أعدائهم البرابرة. اقتنعوا بفوقيّتهم لدرجة أنهم لم يستطيعوا التعامل مع الخطر على محمل الجد."
الفصل ١٨"في تلك الليلة كان لديه حلم آخر. رأى نفسه يسير في الشوارع، يلتفت إلى ما يثير اهتمامه. مقابل أبواب الكاتدرائية، رأى رجلاً يلوّح بلافتة تعلن نهاية العالم. كان شعره الرمادي لامعًا وقذرًا، عيناه المتعبتان مفتوحتان لكنها لا ترى شيئًا. ثبّت عينيه بعد ذلك على داود، وتحوّلت ملامح الوجه إلى وجه والده، ثم استحالت إلى شيء دميم. بلمح البصر، وجد داود نفسه في شارع بيشوب، يقرأ رسالة من أمه. رآها تنطق الكلمات، وهي تكتبها بعناء. كانت تجلس بجانب سرير والده، تهشّ الذباب بعيدًا. بجانبها طبيب هندي يدندن أغاني الحب لها، ويكتب وصفة طبية. كان صوت المذياع صاخبًا بالموسيقى. حاول قدر الإمكان، ولم يتمكن من رؤية وجه والده، رأى شكلًا مغطًى بالذباب. أصبح من الأهمية بمكان أن يراه، وأصبح في حالة هستيرية، وهو يحاول شق طريقه إليه قبل أن يموت."
الفصل ١٩"بالنسبة إلى حفلته، استولى كارتا على غرفة المعيشة حيث احتل التلفاز مكان الصدارة. قال كارتا له، وهو يحاول إخراج التلفاز من الغرفة: "هل ترى هذا الجهاز؟ لقد خضت معارك مريرة حول هذا اللعين. كلما أردت مشاهدة أي شيء، تأوه الباقون واشتكوا. يجدون ذوقي سوقي بعض الشيء. هل تفهم ماذا تعني تلك الكلمة؟ يحبون مشاهدة البرامج الجادة حول الملايين الذين يتضورون جوعاً في الهند. يتحدّث فيها أحيانًا أمريكي متعجرف، أو إيطالي غير واضح الكلام، ويتنبأ بنهاية العالم. يجب أن ترى تلك القمامة. يتجمعون مع أصدقائهم، ويجلسون في انتظار قردٍ مفرط التغذية ليخبرهم كيف ينفد العالم من الطعام أو الماء أو شيء آخر. يدخنون حشيشهم اللعين، ويستمعون إلى هذه النظريات نصف الناضجة، ويشعرون أنهم فعلًا يتصدون للمشكلات التي تواجه البشرية. أقول لهم أنني أدفع حصتي من الإيجار، وسوف أحصل على حصتي من المشاهدة."
الفصل ٢٠"تقدّم نحو المذبح، ونظر سريعًا إلى المنبر المبهرج. اعتبر زركشات المنبر خرقاء، تفتقد الرصانة والرزانة. بدا له أنه عمل كهنة يتباهون بأنفسهم. قاوم سحب كاثرين المستمر، وأمعن النظر إلى قطعة قماش المذبح المتسخة، والصليب الثقيل القديم الموجود عليها. كان المنظر أكثر أصالة وجمالاً بالنسبة إليه. أخذته إلى جناح الكنيسة، وشاهد النَّصَب التذكارية للفرسان والملوك. كما لو كانت تحتفظ بالأفضل حتى النهاية، أخذته إلى المصلى الكنسي للقديسين والشهداء في العصر الحديث، وتذكر حينها حادثة اغتيال مارتن لوثر كينغ. أسرع عائدًا بعد ذلك إلى صحن الكنيسة، ووقف تحت قبتها المضلعة، شعر وكأنه يرتفع عاليًا، ويحلق عند رؤيته انكسار الضوء على الحجر العتيق. بعد ذلك لم يرغب في رؤية المزيد. أراد الرحيل.
"لم يُبن هذا من أجل الله" قال. "بل للاحتفال بألمعية البشر. سنعود مرة أخرى. إنه أمر لا يصدق. كيف قامت مجموعة من البرابرة يرتدون جلود الذئاب ببناء هذا؟ "
"لا أحب أسلوب التبجيل هذا الذي تتبناه" قالت، وهي تسحبه بعيدًا. "بُنيت هذه الكاتدرائية على أيدي الأجانب على أي حال. حتى الحجر أحضروه من كان الفرنسية. إنها مجرد كومة قوطية ضخمة تقف بجوار حظيرتك العفنة، ومن الغباء عدم زيارتها."
"لا لا" اعترض. "الأمر أكثر من ذلك." شقّا طريقهما بين الحشود في شارع صن وشارع بالاس. حاول داود شرح أن ما شاهداه كان أكثر تعقيدًا "كيف يمكن لرجل بربري ضعيف أن يفعل كل ذلك؟ وما الهدف؟ اسألي نفسك ذلك. لم يكن يحتفل بمجد الإله عندما بنى ذلك. لقد كان يثبت لنفسه ولزمانه سعة حيلته وبراعته. ولهذا السبب يأتي ملايين الحجاج إلى هنا منذ قرون... مهلًا، لا تسرعي في خطاك! جاؤوا جميعًا محملين بالإيمان أو الخطايا. يشعرون أنهم جزء من سياق الفكرة، كما أن الألم والمعاناة يؤكدان حقيقة شعورهم، ويبعثان في وجدانهم القوة. هل ترين؟ لماذا تمشين بسرعة كبيرة؟ "
"لأنني أحاول الخروج من هذا الحشد اللعين! " صاحت.
"ألا ترين؟ " قال، عندما وصلا إلى شارع بيشوب. "هذا هو السبب الذي دفع هؤلاء الحجاج للقدوم، وكانوا مفعمين بالعاطفة، خلافاً لهؤلاء المتطفلين الذين يحدقون بأفواه فاغرة في كل ما يرونه. لقد جاؤوا والمعاناة في صدورهم، بسبب هويتهم أو بسبب ما فعلوه. شاهدوا تلك القبة الرائعة، وقد بُنيت من قبل أشخاص لا يعرفونهم. لا بد أنهم أدركوا حينها، ولا بد أنهم عرفوا أن من بنى كومة الأحجار المذهلة هذه التي جاؤوا للتعبد فيها؛ يحمل ذات العقيدة التي دفعتهم لرحلة الحج. لم يكن الأمر متعلّقًا بالله؛ بل بسعة الحيلة والقدرة على صنع شيء ضخم وجميل، نصب تذكاري هائل للمعاناة والألم نسافر من أجله آلاف الأميال. إنه مزار عادي في النهاية، ولكن قيمته في معناه ورمزيته، هكذا كان الأمر طوال الوقت. هل فهمتِ؟ "
كانت تنصت له، ولكن متشككة، تراقب انفعالاته عابسة، وربما رافضة لبعض ما قاله "سأصنع بعض الشاي" قالت.
"انتظري" سألها. "دعيني أنهي. ما يربط جميع هؤلاء الحجاج هو ذات الرغبة في كسر قيودهم، وتجاوز ما يعرفونه... لتغيير حياتهم."
في وقت لاحق، وبعد احتسائه عدة فناجين من الشاي توقّف عن سرد مرئياته في رحلة الحجاج، تحدث لها عن رحلته الخاصة. كيف تمكن، كما اعتقد، من مواجهة العباقرة والجهابذة في عرينهم، قبض على أسرارهم، ولهث عائدًا في المسارات الجبلية إلى وادي شعبه الخفي الآمن. لقد جاء حاملاً ماضيًا حيًا، ومصدرًا للقوة والطمأنينة، لكنه استغرق وقتاً طويلاً ليدرك أن ما جلبه لم يعد من الممكن الوصول إلى منبعه. بعد ذلك بدأت روحه تتسرب وتترشح وتتعفّن. أصبح شيئًا، ناشزًا ومشوهًا، قطعة من عذاب. بدأ يعتبر نفسه جسدًا منهكًا ومنتفخًا جرفته الأمواج إلى الشاطئ، عارياً بين الغرباء. مثل «المتسلط» في النهاية... كان الواقع أكثر ابتذالًا مما ظن. لقد جاء لنفس الأسباب التي دفعت الرجل «الذئب» البربري إلى بناء ذلك النصب الحجري، كجزء من جهود صراع النفس البشرية المريب للخروج من عصابيتها ومخاوفها. عندما حصل على قسط من الراحة، وعدها، أنه سيطلق الأفعى المحبوسة في قرارة نفسه إلى عالم لا يمكن تخمينه."
________________________________________
* مختارات من رواية «طريق الحجّاج» عبد الرزاق قرنح، ترجمة د. شريف بقنه - دار أثر للنشر والتوزيع 2025
[1] فلورنس نايتنجيل Florence Nightingale أو «السيدة حاملة المصباح» ممرضة بريطانية وشخصية تاريخية، اشتهرت بحملها مصباح للبحث عن الجرحى وتفقد المرضى خلال حرب القرم عام ١٨٥٤، أصبح هذا المصباح لاحقًا رمزًا للتمريض ورعاية المرضى في جميع أنحاء العالم. (المترجم)
[2] حسونة بلومفونتين أو قُبَّرَة بلومفونتين The Lark of Bloemfontein، تسمية وضعها داود لمشرفته، وهو وصف استخدمه للإشارة إلى النساء اللاتي يستخدمن أصواتهن للدفاع عن القضايا، حيث يشير إلى أنه كان متأكدًا من أنها شاهدة على صعود الإمبراطورية البريطانية إلى السلطة في أفريقيا خلال حرب البوير. بلومفونتين هي عاصمة مقاطعة فري ستيت في جنوب أفريقيا، أما حرب البوير Boer War فهي حرب وقعت بين بريطانيا والمستعمرات الهولندية في جنوب أفريقيا في الفترة ١٨٩٩-١٩٠٢. (المترجم)
[3] غرغونات Gorgons جمع غُرغونة من الأساطير الإغريقية، وهن أخوات ثلاث مُرعبات، شعورهنّ كانت من الأفاعي ونظراتهنّ تمسخُ الرائي حَجَرًا. (المترجم)
[4] صقاليب Cyclops جمع صُقلوب، وهم مسوخ من جنس الجبابرة في الأسطورة الإغريقية، ذوو عين واحدة وسط الجبهة. (المترجم)