10 أبريل 2025

صعود الآلات - فصل مترجم من كتاب «الإمبراطوارية السوية»

صعود الآلات

تجري أحداث أهم أجزاء قصتنا منذ أوائل القرن التاسع عشر، ولكن من المفيد أن نبدأ بسرد أكثر شمولاً يوفر سياقًا أوسع. أحد أهم الاستفهامات يتعلق بكيف أدى التحول من الإقطاعية إلى الرأسمالية إلى تغير جوهري في كيفية تصور الصحة.
يبدأ الفصل بإلقاء نظرة سريعة على كيفية فهم الصحة كشكل من أشكال الانسجام في اليونان القديمة وأماكن أخرى في العالم القديم، واستمر ذلك حتى القرن السابع عشر على الأقل. انتقل بعد ذلك إلى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، الذي أعد عمله رمزًا لتحوّل أوسع في الفكر التنويري حول الجسم والصحة. بالنسبة لديكارت، أُعيد تصور الجسم باعتباره آلة. من هذا المنظور، لم تعد الصحة مسألة انسجام، بل أصبحت آلية عمل لابد وأن تعمل بشكل صحيح. أخيرًا، انتقل إلى صعود الرأسمالية والثورة الصناعية. أوضح أنه، وبعيدًا عن كونه تطورًا علميًا لا مفرّ منه، أصبح تصوّر الجسم كآلة مقبولًا على نطاق واسع لأنه ساعد في تطبيع التسلسلات الهرمية الجديدة التي انبثقت من الرأسمالية. هذه النظرة الشاملة، التي توضح كيف أدخلت الرأسمالية مفهومًا جديدًا وعلمًا متوافقًا عن الصحة، ستسهم في تمهيد الطريق للفصول التالية التي تناقش صعود النموذج المرضي.

الصحة كانسجام

كان زمن أبقراط هو العالم الكلاسيكي للمدن اليونانية حيث دارت معارك شهيرة، وألّف الشعراء العظماء ملاحمهم، وتجادل سقراط مع مواطنيه في سوق أثينا. بسبب بساطة الطب في تلك الفترة، أصبحت الأمراض المزمنة والإعاقة جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، ولم يكن هناك فصل أو تمييز للإعاقة يشبه ما حدث لاحقًا. تُظهر الأدلة الأثرية، على سبيل المثال، أن المعابد احتوت على سطوح مائلة لتسهيل وصول ذوي الإعاقة الحركية [1]. مع ذلك، كان هناك تمييز ضد ذوي الإعاقة؛ ومن ذلك الاعتقاد السائد بأن المرض عقاب - أو في بعض الأحيان هدية - من الآلهة. يرجع تاريخ هذا "النموذج الأخلاقي" للإعاقة إلى مصر القديمة، حيث يقوم السحرة الأطباء بطرد الأرواح الشريرة إلى جانب توفير التدخل الطبي اللازم.
ولد أبقراط العام٤٦٠ قبل الميلاد تقريبًا في جزيرة كوس، قبالة سواحل تركيا. تعلم أولًا على يد والده، الطبيب هيراكليدس. بعد أن تعلم كلّ ما لدى والده، جاب أبقراط أنحاء واسعة لتعلّم المزيد عن الطب. في حين لا يُعرف سوى القليل على وجه اليقين عن أسفاره أو حياته اللاحقة، إلا أننا نعرف من معاصره أفلاطون أن أبقراط عاد إلى كوس وأصبح مشهورًا بعمله الطبي وتعاليمه. [2]
نعلم أيضًا أن عددًا كبيرًا من النصوص، المعروفة باسم كوربوس أبقراط Hippocratic Corpus، لا تزال موجودة. كتبها أبقراط أو أتباعه. من هنا يتضح إرث التقليد الأبقراطي؛ في حين كان يُنظر إلى المرض تقليديًا من خلال عدسة دينية فهم الأبقراطيون المرض بطريقة طبيعية كمشكلات في الجسم أو العقل. كما كانوا روادًا في طرق الملاحظة والتوثيق وطوروا أنظمة تشخيصية معقدة لتفسير وعلاج الأمراض.
مع مرور الزمن، أصبح العاملون في هذا التقليد قادرين على علاج الجروح الملوثة وطوروا أدوات وتدخلات جراحية مهمة، وفهموا أهمية التغذية السليمة للجسم. اعتبروا أيضًا أن الدماغ، على حد تعبير أحد نصوص أبقراط "مقر الجنون والهذيان، والمخاوف والأهوال التي تباغتنا"[3]. عندما يتعلق الأمر بالأمراض العصبية فقد ميزوا بين الهوس والكآبة والجنون والصرع بأساليب لا تختلف كثيرًا عما جاء في أعمال الأطباء النفسيين الأوائل بعد أكثر من ألفي عام.[4]  هنا شهدنا لأول مرة الاعتراف بحالات عصبية محددة بدلًا من الفكرة التي تنسب الجنون إلى آلهة خبيثة أو غاضبة.
لكن هنا أيضًا تنتهي التشابهات مع الطب المعاصر. الاختلاف الأهم هو أن مفهومهم للصحة يختلف تمامًا عن المفاهيم التي لحقتهم. في يومنا هذا تُفهم الإعاقة في سياق علاقتها بالحالة السوية والمفاهيم الإحصائية. لم يكن مثل هذا المفهوم متداولًا في العالم القديم. في حين أن الفيثاغوريين طوروا مفهوم "المتوسّط" الحسابي قبل وقت قصير من ولادة أبقراط إلا أن هذا المفهوم كان مجردًا إلى حدٍّ كبير. كما كتب سايمون رابر "يذكر الفيثاغوريون المتوسط الحسابي في سياق الموسيقى والتناسب إلى جانب المتوسط الهندسي والتوافقي ولم يقترحوا استخدامه لتلخيص البيانات"[5]. من ثم فإن فكرة الأداء الوظيفي "الطبيعي" - أو بشكل أكثر تحديدًا معدل ضربات القلب الطبيعي وقدرة الرئة الطبيعية والطول الطبيعي والقدرة الإدراكية الطبيعية وما إلى ذلك - ستكون غريبة تمامًا على أطباء العصور القديمة.
عرّف الأبقراطيون المرض على أنه اضطراب في الانسجام الجسدي أو التوازن أو الاستقرار. يتمثّل توازن الصحة فيما اعتبروه الروابط الأساسية الأربعة أو "الأخلاط humours" وهي الدم والبلغم، والعصارة الصفراء والعصارة السوداء. من هذا المنطلق كما يلخص المؤرخ أندرو سكل "يتكون كل واحد منا من أربعة عناصر أساسية تتنافس على التفوق" بطرق يمكن أن تؤدي إلى توازنها بشكل أكبر أو أقل. [6]  إذا كانت هذه العناصر متوازنة، فإن الجسم يكون سليمًا، وتنتج أمراض مختلفة من أشكال مختلفة من الاختلال.
بالمثل، يمكن اعتبار الصحة كحالة من التناغم والانسجام بين الفرد والبيئة المحيطة به. على سبيل المثال، تتغير هيمنة الأخلاط المختلفة بتغير المواسم، مما يؤدي إلى تغيّر الأمراض. اقترح الأبقراطيون أيضًا أن الوظائف العصبية يمكن أن تتأثر بتغيرات الطقس. فمثلًا، -كما يفترض أحد النصوص-، فإن "الرياح الجنوبية" يمكن أن "تبعث الراحة إلى الدماغ" وأوعيته الدموية، بينما "ستجمّد" الرياح الشمالية أجزاء من الدماغ، وتجلب كل ظاهرة معها تأثيرات إدراكية مختلفة.[7]  إذا كان شخص ما مريضًا، يُنظر إلى مرضه باعتباره علامة على وجود نقص في توازن وانسجام الأخلاط أو انعدام في التناغم بين الفرد والبيئة، وتُفسّر المشكلات الطبية بملاحظة أنماط عدم التوازن.
في حين أن تركيزنا سيكون على المفاهيم الغربية للصحة، فمن اللافت ملاحظة أن مفاهيم التوازن للصحة البدنية والعقلية يمكن رؤيتها أيضًا في مجموعة من الفلسفات الطبية التقليدية على الصعيد العالمي. تشمل هذه التقاليد الأيورفيدية Ayurvedic tradition في الهند، والطب الصيني القديم، والطب المصري القديم، والتقاليد الطبية الشفهية للإنكا.[8]  من المؤكد أن كلًّا من هذه التقاليد تختلف في مجموعة من التعقيدات والفروق الدقيقة، ولم يستخدم أيّ منها المفهوم الأبقراطي لـ "الأخلاط". مع ذلك، فقد نظروا إلى الصحة على أنها، -بمعنى أو بآخر-، مسألة انسجام أو توازن داخل الفرد، أو بين الفرد والبيئة والمجتمع. على سبيل المثال، حسبما نقل أليكسوس ماكلويد، اعتقد أولئك الذين ينتمون إلى التقليد الكونفوشيوسي القديم في الصين أنه "إذا كنا في مجتمعات سيئة أو شريرة أو غير صحية، ستضطرب معتقداتنا وعواطفنا وتوقعاتنا ومواقفنا (من بين أمور أخرى) بطرق خطيرة.[9]" .
وهكذا، في جميع أنحاء العالم القديم، لم يكن المرض يعني وجود خلل ميكانيكي، ولكن انعداماً للتوازن في الذات أو مع البيئة أو الآخرين. بعيدًا عن كونها مقتصرة على العصور القديمة، استمرت هذه التقاليد حتى وقت قريب جدًا. على سبيل المثال، تطور تقليد الأخلاط في روما القديمة من خلال أعمال جالينوس، وخلال العصر الذهبي الإسلامي على يد ابن سينا، من ثم عبر أوروبا في العصور الوسطى. على نحو مماثل، انتشرت تقاليد التوازن القديمة الأخرى على مستوى العالم، واستمرت حتى العصر الحديث. ظلت المعادلة الأساسية بين الصحة والانسجام، والمرض وعدم التوازن سائدة حتى عصر الاستعمار، وعصر التنوير، والأهم من ذلك، حتى صعود الرأسمالية.

16 يناير 2025

قصيدة "دهشة الأطفال" شريف بقنه - فيديو

قصيدة «دهشة الأطفال» شعر وإلقاء د.شريف بقنه، سجلت الأمسية ضمن فعاليات الملتقى الشعري السادس، جازان المملكة العربية السعودية بتاريخ ١٠ يناير ٢٠٢٥.
The poem "Children's Wonder," written and
recited by Dr. Sharif Bugnah, was recorded during the Sixth Poetry Forum, Saudi Arabia, on January 10, 2025.
المزيد في أرشيف اليوتيوب

13 سبتمبر 2024

حجَرٌ فلسفي - شريف بقنه

 
"عذابٌ، ومكانُ معاناةٍ، مرعبٌ" 
لويز جلوك، عن كتابةِ الشعر 

أكتبُ مالا أريدُ الحديثَ عنهُ انتحاراتٍ أخلّصُ فيها عصابيتي، ولاداتٍ أتماهى في أطوارِها وأتخلَّقُ، وأشعرُ بشلّالِ الفراغِ ينسكِبُ في رُوحِي ومُلاءةِ اللاجدوَى تُدثّر جسدي، وأشعرُ برأسي يخرجُ من رحِمٍ كما لو أنّ الأجسادَ الشعريةَ تكافحُ من أجلِ اقتحامِ الواقعِ بتعبيرِ بثارنيك. أكتبُ عندما يتلبسُني مأزقُ اللاأدرية وتفقِدُ الجاذبيةُ الأرضيةُ ماهيّتَها، يسقطُ القاع وأستحيلُ جسمًا مقذوفًا في خلويّةِ الكون. أرى الشّخصَ الذي لم أكنْه ممسوسًا بالحريَّةِ، مضادًا للألمِ، يتدلّى على حبالٍ وهميةٍ، وتصبحُ جميعُ المبرراتِ التي ابتدعتْهَا البشريةُ لتفسيرِ الوجودِ غيرَ حاسمةٍ بما يكفي لأتوقّفَ عنِ الكتابة. أكتبُ وفي أناي نزعةٌ شِعريةٌ متمّردةٌ ومُلحّةٌ يُفسِدُها التفلسفُ والمباشرة. أعرفُ ما يُفسِدُ شِعريَّتي؛ غيرَ أنّني لا أُطيقُ شعرًا لا يقولُ شيئًا أو شعرًا معلّبًا يستعبدُه اللَّحنُ. أحبُّ الشعرَ الذي يضربُ بالمنطقِ عرضَ الحائط، يسافرُ بلا بوصلةٍ أو خارطة، ورغمَ بوهميّتِهِ وصعلكتِه إلا أنَّهُ يتمثلُ الأستطيقا ويبنِي معماريتَهُ الخاصةَ على حجرٍ فلسفيٍّ تليد. لستُ فيلسوفًا ولكنّي شاعرٌ محفَزٌ بالفلسفةِ بتعبيرِ بيسوا. أكتبُ وأعانقُ اللحظةَ محرّفًا الوقت، غافلًا عنّي واعيًا بما حولِي، نابذًا يومي منغمسًا بكونِي، حرًّا حتى فيما يقعُ عليّ جبرًا، أرتدي الأبجديةَ وشاحًا جهنميًّا يشتعلُ من الداخلِ ويقضُّ سلامَ رُوحي الكسول، وتُحلّقُ بي الكلماتُ الى فردوسٍ أو جحيم.

١ أبريل ٢٠٢٤
شريف بقنه

صباحٌ جديد - شريف بقنه

شمسٌ تعوّلُ
على الماضي السّحيق،
ولا زِلْنا نردِّدُ كلَّ يومٍ  
"صباحٌ  جديد".
نصحُو 
بلا قصدٍ مثل حجِرٍ
بلا سببٍ مثل قدَرٍ، 
نلبس جسدًا لا نعرفُه
ونداولُ الأيّامَ خبزًا
يسدُّ رمقَ المتعبين. 
نهيمُ في عتمةِ اللَّيل، 
ونشجُبُ التّكرارَ لزمنٍ 
موبوءٍ بمرضِ التخلّي المرير. 
نحاولُ، نكدُّ ونكدحُ 
كي لانفعلَ شيئًا. 
نحاولُ والحدسُ دليلُنا
الحيرةُ كنزُنا، 
والمدى طَللٌ تناثرت 
فيهِ عظامُ البشرِ
تغشاهُ غيومٌ تخثّرت 
في حلقِ السّماءِ، 
والطّريقُ إلى اللهِ
مقطوعةٌ. 

22 يوليو 2024

حارسُ الفناءِ - شريف بقنه

أنا اسمِي وفمِي ويدِي  
صوتِي ومعطفِي 
تلك أشيائي، من أنا؟  
 يسألُنِي ظلِّي الناسكِ. 
معالجٌ جريحٌ
يجتاز المسافات الرّمادية 
يقدحُ شرارةَ  الوعي في خِدرِ الظَّلامِ، 
والنَّهارِ فرخٌ نائمٌ في عشِّهِ السِّرِّيّ 
والمحيطُ حوضٌ فارغٌ 
ينتظرُ فِرارَ حُورياتِهِ
من بطشِ أپولو وهرميس وآرتميس،
والانتباهُ المفرطُ يتدربُ على
بروفاتِ دراما اليومِ. 

أقاومُ الخرابَ وتلفَ الرُّوح
أناضلُ أسفلَ الجبلِ مع سيزيف
تتفرّسُ بي بيثيا،
 تخبرنُي أنَّ المِطرقةَ 
هشَّمتْ رأسَ الحكمة.
أستعملُ جسدًا ويفلتُ 
الوقتُ من يدي، 
لا أملكُ سوى إيمانٍ متقلّبٍ 
وقلقٍ مُطاردٍ فادحٍ. 

أنا حارسُ الفناءِ. 
طفرةُ الطّبيعةِ الشاردةِ
تبتكرُ تمرّدَهَا الصَّغيرَ         
ثم تُذعنُ للزَّوالِ،
تمتزجُ بنيازكِ التّلاشِي
تشارك الكونَ انفجاره الكبير.

18 يوليو 2024

أريد أن أكتب شيئًا بكل بساطة - ماري أوليفر


أريد ان أكتب شيئًا
بكلّ بساطةٍ
عن الحبّ
أو الألم،
شيئًا
تقرأه
وتشعر به
وكلّما قرأت
كلّما شعرت،
وعلى الرّغم من أنني أكتب
قصّتي إلا أننا نشترك فيها،
على الرغم من أنها تخصّ فردًا
إلا أنك تعرفها
حتى في نهاية الأمر..
تظنُّ
لا، تدرك-
أنك كنت طوال الوقت
تكتبُ كلماتها،
أنها كانت طوال الوقت
كلماتٌ قلتها
عنك ومنك
من صميم قلبك.
___________________
ترجمة شريف بُقنه
ماري أوليفر Mary Oliver شاعرة وكاتبة وروائية أمريكية ( ١٩٣٥-٢٠١٩ ). حازت العديد من الجوائز؛ مثل جائزة بوليتزر عن فئة الشعر ١٩٨٤ وجائزة الكتاب الوطني للشعر ١٩٩٢.
"I Want to Write Something So Simply" by Mary Oliver from Evidence: Poems, 2009 by Beacon Press

17 يوليو 2024

جرف وراء العالم - شريف بقنه

١
وفي الحياة ستمتطي حصانًا هلاميًّا
سرجُه الوعيُّ وزمامُهُ الشكُّ 
وحدواتُهُ أوقاتٌ تسيلُ 
من كلِّ صوبٍ،
ستركضُ محاكاةً خطرةً 
ورحلةَ إلهاءٍ مستمرةً.
ستشقُّ طرقًا محفوفةً بالشُّرور 
ملغّمةً بالهلاوسِ والضلالاتِ
وكلُّ فكرةٍ ضلالةٌ
والخيرُ والشرُّ 
خيالاتٌ في عُرفِ الأبديةِ.
سيجري ينبوعُ الزَّمنِ 
من بينِ قدميْكَ، 
ولكنِ انظرْ إلى الدّهرِ 
ولا تنظرْ تحتَ قدميْك 
انظرْ إلى جرفٍ وراءَ العالم.
ستجدُ ملاكًا قدَمه مكسورةٌ 
وجماجمَ أسلافٍ مجذومين 
ومدينةً مطمورةً، 
وفي الأرضِ وصفٌ 
يُغني عنِ النَّدمِ.
ستفنِّدُ عقائدَ ودسائسَ 
واحتمالاتٍ وصرخاتٍ 
تحنّطت في ذرواتِها.
ستسحقُ إرادتُك كلَّ شيءٍ 
ما عدا الألمَ والموتَ والكآبةَ؛ 
خطايَا الحياةِ التي لا تُغتفرُ.
سترى طيفًا تهيّأ حقيقةً 
ولا حقيقةَ سوى المادةِ والتجربةِ 
وكلُّ ما يشتغلُ حولَكَ 
لا يعدو كونَهُ مسمارًا صغيرًا 
في ماكينةِ الحياةِ الهائلةِ 
أو صيغةً رياضيةً 
مرسلةً في فلواتِ السَّماءِ.

٢
كُنِ الغريبَ يخمرُ الرغبةَ
ويجمدُ اللحظةَ ساعةً للتجّلي،
أعرِضْ عن أطواقِ النجاةِ
أطواقِ القانعِ والعادي 
ولا تفعلْ شيئًا لأنك وجدتَهم يفعلون
اِبحثْ عن حريةٍ تجمعُ فوضاك.
كُنِ الصابرَ المفتونَ بالترقّبِ
 المؤجّلَ لموعدٍ غامضٍ
 المجبولَ على غيابِ الآخَرِ والأبدي.
و"اعلم أنَّ الألمَ هو الشرفُ الوحيدُ 
الذي لن تنالَ منه الأرضُ، ولا الجحيم" *
 وأنَّ الألمَ معبرُ العالمِ.
كُنِ العارفَ الذي يتفانى في شكِّهِ
 يحاججُ، ينقضُ، يقوّضُ
 يفرِشُ الأسلاكَ الشائكةَ 
في روضاتِ اليقين،
ليكن أعمقُ ما تثقُ به 
ألا تثقَ بشيءٍ 
وسجِّلْ شهادتَكَ فارغةً.
كُنِ الأزليَّ كاهنَ الأيامِ
رديفَ المطلقِ
سيّدَ السُّننِ،
قل كلمتَك وتحطَّم
واصنع سعادتَك 
بطلاوةٍ بفنائِك.


شريف بقنه
خميس مشيط
 ٢٢ سبتمبر ٢٠٢٣

_________________
*شارل بودلير

16 يوليو 2024

طيفُ الحقيقة - ديفيد ولبِرت | تحرير: كاميرون آلان ماكين

ترجمة: شريف بقنة – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
قد لا يُمكن للعِلم والرياضيات القبض على الكون الماديّ بشكلٍ كامل. هل ثمَّة حدود يصعب على الذَّكاء البشريّ تجاوزها؟
على الرغم من إنجازاته الفكرية العديدة، إلا أنني أظن أنّ هناك بعض المفاهيم التي لا يستطيع كلبي تخيّلها أو حتى التفكير فيها. يمكنه الجلوس بحسب الأوامر وإحضار الكُرة، لكنّه لا يستطيع تخيّل أنّ العلبة المعدنية التي تحتوي طعامه مصنوعة من الصخور المُعالجة. أظنّ أنه لا يستطيع تخيّل أنّ الخطوط البيضاء التي تطول ببطءٍ في السماء، والتي تنتجها آلات مصنوعة أيضًا من الصخور، تمامًا مثل علب طعام الكلاب. أظنّ أنه لا يستطيع تخيّل أن عُلب طعام الكلاب المُعاد استخدامها في السماء تبدو صغيرةً جدًا فقط لأنها شاهقة الارتفاع. وأتساءل: هل هناك أيّة طريقة يمكن من خلالها لكلبي أن يستوعب أنّ مثل هذه الأفكار موجودة بالفعل؟ لا يستغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى ينتقل هذا السؤال لمكانٍ آخر. سرعان ما بدأتُ أتساءل عن المفاهيم التي لا أعرف أنها موجودة: المفاهيم التي لا أستطيع حتى تخيَّل وجودها، ناهيك عن التفكير فيها. ما الذي يمكنني معرفته عن ذلك الذي يقع خارج حدود ما يمكنني تصوّره؟
محاولة الإجابة على هذا السؤال تقودنا -فقط- إلى طرح المزيد من الأسئلة. في هذا المقال، سأعبر سلسلةً من ١٠ استفهامات تنقل نظرةً ثاقبة حول كيفية تصوّر ما هو على المحكّ في السؤال، وكيفية الإجابة عليه (وهناك الكثير على المحكّ). إنّ السؤال حول ما يمكننا معرفته وما يقع خارج حدود خيالنا يتعلّق جزئيًا بالوظيفة البيولوجية للذكاء، وجزئيًا يرتبط بأعظم بدَلاتنا المعرفية، خاصةً اللغة البشرية وعلم الرياضيات. يتعلّق الأمر أيضًا بإمكانية وجود واقع مادّي يتجاوز بكثير واقعنا أو واقع محاكاة لا نهائيّ يعمل في أجهزة كمبيوتر تعود لأشكال حياةٍ غير بشريَّة مُتقدِّمة. ويتعلّق الأمر بذريّتنا التكنولوجية، هؤلاء “الأطفال”، الذين سيتفوّقون علينا معرفيًا يومًا ما. من منظور استفهاماتي العشرة، تصبح الاستثنائية البشرية مُهتزة للغاية. ربما نكون مثل الكلاب (أو باراميسيا وحيدة الخليَّة)، ويصعب علينا الاعتراف بذلك. على الرغم من أنّ تاريخ البشرية مليء بشهادات اِفتتانٍ عن ألمعية الإنسان وذكائه، فإن هذه السلسلة من الأسئلة ترسم صورة مختلفة: أريد أن أؤكد المدى الفظيع، وربما المرعب، لمحدودية إنجازاتنا؛ لغتنا وعِلمنا ورياضياتنا.
وهكذا، فإنّ السؤال الأوَّل في السلسلة ببساطة:
١- على مقياسٍ موضوعيّ غير محدَّد، هل نحن أذكياء أم أغبياء؟
لفتراتٍ طويلة من الزمن، يبدو أنّ مستوى الذكاء الأعلى على الأرض قد زاد ببطءٍ شديد، في أحسن الأحوال. حتى الآن، تقوم أدمغتنا بمعالجة المعلومات الحسِّية الحركية باستخدام كلّ أنواع الحِيَل الحسابية التي تسمح لنا القيام بأقلّ قدر ممكن من التفكير الفعلي. هذا يشير إلى أنّ التكلفة المرتبطة بالذكاء مرتفعة. اِتضح أنّ الأدمغة غالية التكلفة من الناحية الأيضية بشكلٍ غير عاديّ على أساس كل وحدة كتلة، أكثر بكثير من جميع الأعضاء الأخرى تقريبًا (باستثناء القلب والكبد). لذا، كلَّما كان الكائن الحيّ أكثر ذكاءً؛ كلَّما احتاج إلى المزيد من الطعام، أو ربّما يموت. من الناحية التطوُّرية، من الغباء أن تكون ذكيًّا.
ليس لدينا فهم جيّد للكيفية التي تمنحنا بها أجهزتنا العصبية الذكاء التجريدي. نحن لا نفهم كيف “يصنع الدماغ العقل”. ولكن بالنظر إلى أنّ المزيد من الذكاء يتطلَّب المزيد من كتلة الدماغ، ما يؤدي إلى مزيدٍ من التكلفة الأيضيَّة، يتوقع المرء أن يكون لدينا أدنى مستوى ممكن من الذكاء التجريدي المطلوب للبقاء على قيد الحياة في المجال البيئيّ الدقيق والذي تطوّر فيه الإنسان العاقل: الحدّ الأدنى من الذكاء المطلوب لعبور عدة ملايين من السنين بالصيد والتزاوج حتى أصبحنا محظوظين ووجدنا أنفسنا في ثورة العصر الحجريّ الحديث.